أناتول فرانس (٣)
قل بين القراء من لا يعرف تاييس، فكثيرون من رأوها في الأوبرا تمثلها السيدة منيرة المهدية، أو على الشريط السينمائي، وكان أولاء قد أحبوها، لكن الذين عرفوا تايييس في قصة أناتول فرانس أكثر لصاحبتهم حبًّا، وإن كانوا أقل من السابقين عددًا.
وهؤلاء دفعهم حبهم فرأوا تاييس الأوبرا وتاييس السينما، وعشقوا موسيقى الرواية وصورة بطلة الشريط، لكن هذا العشق لم يزدهم غرامًا بالراقصة القديسة؛ لأن قصة أناتول فرانس تشمل الموسيقى وتشمل الصورة جميعًا، فليست نبرة من النبرات ولا جواب ولا قرار يهز نفسك عند سماع أوركسترا تاييس إلا كان له مقابله من هزات النفس أثناء قراءة القصة. فأما صورة الشريط فلا تعدو أن تكون خيالًا للحقيقة التي يصورها فرانس. وأنت إلى جانب الموسيقى والصورة مغمور خلال القصة بعالم بديع تخلقه ريشة الكاتب العظيم، فلا تلبث في انتقالك من صفحة إلى صفحة ومن حديث إلى حديث أن تشعر بلذائذ مختلفة تتمتع بها مشاعرك جميعًا: يتغذى بها عقلك، وتسر لها نفسك، ويطرب لها فؤادك، ويبتهج بها قلبك، وتنتعش بها عواطفك، ولا يبقى عصب من أعصاب الحس إلا ينال من الاستمتاع نصيبًا يذره مطمئنًّا في نشوته ناعمًا رضيًّا.
مع ذلك فتاييس قصة ليس أبسط منها، هي خلو من الوقائع ومن المفاجآت ومن الاضطراب، وهي قد تبدو للنظرة العجلى لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، لكنها لدى إنعام النظر قصة صادقة قوية فيها كل ما في العالم من سخر الحب والألم بالناس.
•••
فقد ولد بفنوس بالإسكندرية من أسرة ذات نبل، لكن أهله لم يكونوا يمدونه من المال بما يسد مطامع لذائذ الحياة عنده، فلما كان في العشرين من سنه لقيه راهب دله على طريق الهدى الذي يؤدي إلى لذة الخلد من غير حاجة إلى المال، فنسك وانقطع إلى العبادة في الصحراء بين المتقشفة والمعتزلة، ولم يطل به الزمن حتى صار قديسًا بين الرهبان، وصار له تلاميذ وأتباع يأخذون عنه قواعد التقى والإيمان.
وقضى نسكه أن يذكر ماضي شبابه ليقدر شوهه وقبحه، فذكر يومًا أنه رأى في ذلك الحين على مسارح الإسكندرية ممثلة تدعى تاييس بارعة الجمال، يثير رقصها البديع شهوات النفوس، وتدفع حركاتها الموسيقية الأرواح إلى الضياع في حمأة الملذات، وذكر أنه اندفع يومًا إلى دارها فلم يرده إلا حياء الشباب وضيق ذات اليد، وأثارت هذه الذكرى في نفسه صورة الراقصة ودقائق جمالها الباهر، فاستغفر ربه من نزغ الشيطان واعتزم خلاص هذه الروح من الخطايا لتخلص معها أرواح كثيرة؛ وليكون هذا الجسم الذي أبدعه الله مثلًا للجمال دار روح لا يقل عنه جمالًا.
ولم يثنِه عن عزمه نصح أخ له ذي فضل وتقى، بل ودَّع تلاميذه وأتباعه وهجر الصحراء، وسار في طريقه إلى الإسكندرية يدعو كل من لقيه إلى حمى الله، ويدعو الله غير وانٍ أن ينزل على تاييس هداه، ولما بلغ المدينة استعار من صديقه القديم نسياس ثوبًا ستر به ملابس الراهب، وذهب إلى المسرح فرأى تاييس اكتملت فيها روح المرأة فازدادت بهاءً وسحرًا، ثم دلف إلى دارها يدعوها إلى حمى الغفور الرحيم.
ولم يجد الراهب عنتًا في بلوغ غايته؛ فقد وُلدت تاييس في عائلة فقيرة، ونشأت نشأة دينية، وأحبت في طفولتها ألوانًا من التقى، وحين ألقى بها الشباب في يم الحياة أحبت فتى عريض الجاه عظيم الثروة أذاقها لذائذ العصر طرًّا، فلما أترعت كرهته فهجرته فذهبت إلى المسارح راقصة بين الراقصات، فبرزت عليهن بفتنة جمالها ورشيق قدِّها ولين حركاتها، فسحرت الناس وصارت تاييس الإسكندرية يرتمي عند أقدامها كل عظيم، وينثر تحت نعالها الذهب والجوهر. ثم سئمت هذه اللذائذ المضنية حين خشيت أن ترتسم تجاعيد الزمن على جبينها النقي، فلما ناداها الراهب إلى حمى ربه عاودها رجع من تقى الشباب، فلم يطل ترددها وتبعته حتى بلغ بها دير الأم «البين»، فأسلمها إليها وسجنها في غرفة ضيقة لتطهر نفسها من رجس العالم، وليُنسي جسمها لمس الأيدي ومس الشفاه وحرارة الأنفاس ورعشة القبلات.
وعاد بفنوس إلى تلاميذه في الصحراء؛ لكنه عاد عامر النفس بتاييس، فكان لا يذكر غيرها ولا يقترن بعبادته إلا كمال جمالها. فاستغفر ربه واستعان على الشياطين بكل ما في الدين من عون ومدد، ولم ينجِهِ الدين من نزغ الشياطين فترك صومعته وهام، فوجد في الصحراء عمادًا رفيعًا منفردًا، اعتلاه كي يتعرض جسمه للتلف بنار الشمس وزمهرير الشتاء ومياه الأمطار، لعل نفسه تصلح بتلف جسمه. لكن خيال تاييس لم يفارقه، فتولاه اليأس ونزل من عليائه وعاد لهيامه فصادف قبرًا خربًا فاتخذه ملجأً وسكنًا، لكن خيال تاييس لم يفارقه داخل القبر أيضًا. وإنه لكذلك إذ مر به رهبان عرف منهم أن آيةً من السماء دلت كل ناسك على أن أنطوان رئيس متدينة الصحراء قد آن له أن يلقى ربه، وأن النساك جميعًا قد هرعوا إليه كي يباركهم قبل موته. فسار بفنوس معهم وقد ملأ الهم نفسه أن تجافت آية السماء عنه، فلما كان عند أنطوان تضرع إليه أن يباركه وأن يستغفر الله له، فاستدنى أنطوان بولس الساذج ليتكلم، وانفتحت السماء أمام الساذج فرأى من أمر ربه أن تاييس توشك أن تموت يحفها الإيمان والخوف والحب، وأن بفنوس سيبقى يعذبه الغرور واللذة والشك، وأعلن ما رأى، فانطلق بفنوس وقد انقلب شكه يقينًا وإيمانه كفرًا، وجعل يلعن السماء والآلهة، وأسرع يطلب تاييس في بيت «البين» يريد أن يضمها إلى صدره، ويستمتع وإياها بالحب ولذته، ويدفع إليها من حياته حياة تمد في أجلها وتغفر له ما أذنب في هدايتها. وألفاها في النزع تستقبل فجر صباح الأبد وترى الملائكة والقديسين، فناداها ألا تذعن للمنون وأن تبقى لتحب، فلا حق في الحياة إلا الحب. لكن تاييس ارتضت الموت بعدما استنفدت الحياة، وتركت هذا البائس المسكين يلقى من «البين» ومن عذاراها لعنة لم تزعجه بعدما كفر.
هذه قصة تاييس، وهي تبدو لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك؛ فكيف ينقلب الناسك القديس كافرًا والراقصة البغي تقية بتولًا؟!
والحق أن الخرافة القديمة التي بعثها أناتول فرانس في هذه القصة لم تشِر إلى شيء من صبا بفنوس وميله لتاييس، ولم تنته بفنوس إلى الإلحاد وإلى حب تاييس، وإنما ذكرت أن تاييس كانت فتنة الإسكندرية حتى بلغ من غيرة محبيها أن كانوا يقتتلون عند بابها، فكان هذا الباب ملطخًا أبدًا بالدماء. وذهب بفنوس عندها، فلما دعته إليها طلب غرفة بعيدة عن الأنظار، وكانت كلما دخلت به إلى غرفة كرر طلبه، فلما كانت آخر الغرف قالت له: إن كنت تريد البعد عن الناس فهذه غرفة لا يسمع أحد لك فيها ركزًا؛ لكنك غير ناجٍ من عين الله وإن حاولت. فلما علم أنها تؤمن بالله وباليوم الآخر وتخاف عقاب الله وترجو ثوابه دعاها للنسك، فقبلت بعد شيء من التردد، وظلت ثلاث سنين رهن محبس ضيق تعذب جسمها لتطهِّر روحها، فلما انتهت تلك السنون باركها بفنوس وأصبحت قديسة يقام لها عيد في ثامن أكتوبر من كل سنة، وظل بفنوس في الصحراء يفوح منه شذا القداسة، ويجتمع حوله المؤمنون.
لكن أناتول فرانس لم يرضَ أن يصدق هذه الرواية؛ فقد ذكر تاريخ القديس بفنوس أنه وقف بمجمع تير سنة ٣٣٥ لميلاد السيد المسيح في وجه القائلين بضرورة انفصال الراهب عن زوجه لما في ذلك من مقاومة الطبيعة ومخالفة ما يفرضه الزواج لكل من الزوجين. فبفنوس إذن كان يؤمن بأن للطبيعة سلطانًا لا يقاوم. وهل سلطان أقوى من سلطان الزهرة؟! ولما كان لكل خرافة في التاريخ أساس، فلا بد أن يكون للخرافة التي اتشحت باسمَي تاييس وبفنوس أصل هو الذي صوره لنا أناتول فرانس.
ولمَ لا تنقلب البغي قديسة بتولًا؟ ألم تسكب المجدلية دمع التوبة عند أقدام السيد المسيح فطهرت من الرجس، وصار مقامها في السماء بين المقربين؟ وإذا كان للبغي أن تنقلب بتولًا فللقديس أن ينقلب ملحدًا؛ وكما فتح الحب للمجدلية باب التوبة فقد فتح لبفنوس باب الخطيئة؛ ولو أن بفنوس أخطأ قبل أن يحب لصهره الحب وطهَّره كما صهر تاييس وطهَّرها، لكنه طهر قبل أن يحب فاستحال حبه خطيئة كما تحيل النار الماس فحمًا. ذلك سلطان الطبيعة وتلك سنتها، لن ينجو منه أحد ولو كان راهبًا.
ليست تاييس إذن لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، وإنما هي صورة صادقة من صور الحياة، وهي أكثر صدقًا أن تمت بالإسكندرية في القرن الرابع المسيحي حين كانت مدرسة الإسكندرية زاهرة، وكانت آراء الفلسفة من زهد أو إباحة تشتبك مع طقوس الدين وألوان الإيمان اشتباكًا رفيقًا لا عنف فيه ولا جفاء، وكانت أبيقورية الترف واللذة الفاشية في المدينة لا يؤذيها انتشار المتقشفة والرواقيين في الصحراء. فلا عجب وهذه هي الحال أن جذب جمال الإيمان بغيًّا، أو استغوت نعمة المدن ناسكًا.
لكن أناتول فرانس لم يكفِهِ أن لا تكون قصته عجبًا، فجعل بغيَّه التي نسكت متدينة بدء حياتها، وجعل ناسكه الذي بغى مترفًا بدء حياته، ثم نقل الشباب كلًّا منهما إلى نقيض نشأته. فلما آن للحياة أن تنحدر إلى منبت الطفولة عاد كل منهما إلى عهده الأول؛ فبغى الناسك، ونسكت البغي.
وقصة تاييس هي قصة هذا الانتقال الأخير. وقد وصف أناتول فرانس في هذه القصة حياة ذلك العصر أدق الوصف، فرسم الصحراء ومن فيها من المعتزلة، وما فيها من أكواخهم المنشورة على الرمال، وما يعالجونه من طقوس العبادة وأنواع التقشف، ورسم بذلك صورة المؤمنين بالدين أول نشأته: يغلون فيه إلى غير حد، ويقومون بفرائضه على صورة لم يتوهمها صاحب الدين يوم أعلنه للناس. ورسم الإسكندرية وما فيها من ترف وما تصبو إليه نفوس أهلها من لذائذ، وما يدور في مجالس فلاسفتها من حديث. لكنه فيما صور من ذلك كله كان أناتول فرانس في أسلوبه وفي تفكيره، وفي ابتسامته وفي سخره وفي إشفاقه، فلست تنسى لحظة وأنت تقرأ القصة أنك تقرأ أناتول فرانس؛ ذلك بأن الكاتب خيل هذا العالم القديم أمامه بما شاء بحثه وعلمه، ثم نظمه كما يريد، ونقشته ريشته بعد أن تم نظامه، فبرزت تاييس للقارئ صورة من نفس فرانس ومن العالم القديم مطبوعًا فيها.
•••
ولعل أقل صور أشخاص القصة وضوحًا صورة تاييس، فأنت لا تستطيع أن تعرف عنها أكثر من أنها راقصة بارعة الجمال، فتنت الإسكندرية، فلما خافت تجاعيد الزمن ودعاها بفنوس إلى الهدى لبَّت دعوته، لكنك لن تجد في القصة كلها شيئًا يميز تاييس عن كل راقصة جميلة. فمن أي نوع كان جمالها؟ وأي نفس كانت تختفي تحت هذا الجمال؟ وما ميول هذه النفس وما طبيعتها؟ وما عسى أن تكون الخواطر المبهمة التي تمر بها؟ ذلك شيء لا يحدثك فرانس عنه، وذلك ضعف تجده في كل تآليفه؛ فبطلاته الجميلات نسوة لا ذاتية لهن. ولعل سبب هذا الضعف أن نفس فرانس كانت أقوى من أن تتمثل نفس امرأة كملت فيها حياة المرأة. وهذه «تريز» بطلة الزنبقة الحمراء، وهي مثال المرأة في نظر الكاتب الكبير، لا تزيد صورتها على صورة تاييس وضوحًا. أو لعل سبب الضعف ما يسبغه فرانس على هاتيك البطلات من ثوب حكمته، وما يجريه بين شفاههن من حديث لا عهد لامرأة به من عهد حواء! … أم إن تشابه صور النساء في كتب فرانس لم يكن ضعفًا، وإنما كان مرجعه عقيدة فرانس في المرأة؛ فهو لم يكن يراها خاضعة لحكم العقل ولما يدعو إليه من تردد واضطراب يؤدي إلى اختلاف نفوس الرجال في الصور والألوان والمشارب، بل كان يراها تسير في الحياة متأثرة بهدي الفطرة وشهواتها السليمة غير خاضعة لتمويه الفكرة البديع الألوان. وهو لذلك لم يكن يرى موضعًا للتفرقة بين صور نفوس نسائه، فهن عنده سواسية في السمو فوق مدارك الفكر، وفي الانحدار مع ميل الهوى. وتاييس الراقصة، وتريز زوج الوزير، وألودي أخت المصور، وكاترين بائعة الدنتلا، وملاني خادمة البيت، جميعًا سواء؛ يختلفن في المظهر، لكنهن يلتقين عند دوافع شهوات الفطرة. ولم تقصر ريشة فرانس في رسم اختلاف المظهر وتباين الميول الاجتماعية رسمًا صادقًا دقيقًا. فأما وصفه لنفس أية من نسوة كتبه فيصدق عليهن جميعًا؛ فكل امرأة تهوى في الرجال محبتهم إياها وإعجابهم بها، وتحرص من حياتها على ما يجلب هذا الإعجاب وتلك المحبة، وتعجب من الرجل الذي يحبها وتقسو في محبته قسوة الشحيح على ماله.
وهل بين النسوة امرأة مهما تبلغ من الطهر، ومهما تكن زوجًا وأمًّا، تتوهم ذبول جمالها في غير الصورة التي رسمها أناتول فرانس لتاييس وقد عادت يومًا من المسرح إلى منزلها الغني المترف، فجلست في «كهف العذارى» تبتغي الراحة من عناء رقص بالغت في إتقانه، فأحيت به ما مر بخاطر كل مصور وكل رسام وكل شاعر من بديع الخيال، «ثم استشفت في مرآتها نذر انحدار جمالها، وفكرت في فزع أن اقترب حين الشعر الأبيض وتجاعيد الوجه، وعبثًا حاولت تسكين روعها بما حدَّثت به نفسها من أن إحراق بعض الأعشاب والنطق ببعض تعاويذ السحر يكفيان لإعادة نضارة اللون، فإن صوتًا لا أثر للرحمة فيه صاح بها: «إن الهرم مدركك يا تاييس لا محالة.» وأثلج جبينها عرق الفزع، لكنها عادت فنظرت إلى نفسها في المرآة نظرة كلها العطف، فألفت نفسها لا تزال جميلة بأن تحب. فابتسمت لصورتها وتمتمت: ليس في الإسكندرية امرأة تستطيع أن تنافسني في ميس القد وخفة الحركات وبهاء الأذرع؛ والأذرع أي مرآتي هي سلاسل الحب حقًّا.»
قد تختلف عبارة كل امرأة حين تعرب عن هذا الإحساس، لكنه يمر بنفوسهن جميعًا على هذه الصورة يختلط فيه الخوف بالرجاء والضعف بالقوة، وتتأثر فيه أعصابهن وعواطفهن بأثر واحد. ذلك ما يؤمن به فرانس؛ ولذلك لا يكون تشابه نسائه ضعفًا، بل يكون كمالًا لصدقه في تصوير الطبيعة النسوية.
•••
فأما صورة بفنوس في قصة تاييس فبالغة حد الكمال في وضوحها. وهل قصة تاييس إلا صورة بفنوس، وهي صورة المؤمن العبوس الإيمان. وهي لذلك النقيض من صورة أناتول فرانس اللاأدري المتشكك الباسم في لاأدريته وتشككه، الساخر من اللاأدرية والإيمان جميعًا، الضاحك للحياة ومما في الحياة ضحكة تشوبها مرارة الهزء بكل شيء، والإشفاق على كل شيء. ولعل أناتول فرانس قد انتقم في تصوير بفنوس للشك من الإيمان كما انتقم في تصوير نسياس للإيمان من الشك، وإن كان انتقامه من الإيمان قاسيًا، وانتقامه من الشك لطيفًا رفيقًا.
فقد اعتزل بفنوس الحياة وانقطع لله فأزمعت الحياة انتقامها من احتقاره إياها، فسلطت عليه الزهرة آلهة الجمال والحب وألبستها صورة تاييس ومكنت لها من نفسه، وأقامت عليه الآلهة حربًا بدأتها بالخدعة، فظلت به حتى قادته إلى المسرح ثم وقفته في حضرة تاييس، وهي فيما فعلت من ذلك إنما كانت تسخر من إيمانه أن جعلته يتوهم أنه صاحب السلطان على مشيئته، فكان باسم الإيمان يحب تاييس، وباسم الإيمان يعبد جمالها، فلما طالت الحرب وشعر الراهب بالزهرة تغالب الإيمان وتكاد تغلبه، تولاه الفزع وجعل يحارب نزغ الشيطان في نفسه. لكن سلطان الحب رفيق شديد، فلم يستطع بفنوس مغالبته، بل انتهى إلى الفكر حين عرف أن تاييس مشرفة على الموت.
في هذه الحرب بين الحياة والزهد في الحياة تجلت نفس بفنوس مملوءة حقدًا على العالم وأنانية وكبرًا؛ فهو يزعم لنفسه سلطانًا على الكائنات جميعًا، ويتهم كل خارج على عقيدته بالنقص والرذيلة، ولما كان التسامح مظهر الحياة فقد كان هذا الجاحد المتعنت عدوًّا للحياة. وماذا يستطيع الرجل إن هو نصب نفسه للحياة عدوًّا؟ ولو أن بفنوس صانع الحياة واتخذ الزهد لذة من لذائذها وجعل من انقطاعه لله فرضًا يؤديه للحياة لما عصفت به وبإيمانه، لكنك تلقاه في طريقه إلى الإسكندرية وفي حضرة تاييس وفي مأدبة الفلاسفة وفي تعذيبه نفسه فوق العماد، وداخل القبر، قاسي النظرة يود أن يحترق كل ما لا يعجبه، وتستمع له فإذا حديثه سوط عذاب مسلط على أجمل ما في الحياة وأبهاه. ولست أذكر لك كيف صوره أناتول فرانس في حالاته، ولكنك إذ تقرأ «تاييس» لا تستطيع أن تحول بين نفسك وبين الإشفاق على رجل تتلاعب به صروف الحياة، وتجعل من عظمته ومن إيمانه ألم نفسه وسخرية سواه.
ولو أنه اتخذ الزهد لذة من لذائذ الحياة لما عصفت به. وهذا هو في طريقه إلى الإسكندرية قد لقي «تمكاس» المتشكك، فألفاه وقد أدى به ازدراؤه الحياة إلى التخلي عما فيها جميعًا. مع هذا كان «تمكاس» راضيًا؛ لأنه كان قد نزع من نفسه كل أثر للطمع في هذه الدنيا وفيما بعدها، واتخذ طقوس حياة بوذا وإن لم يؤمن بدينه. فالزهد لم يكن إذن سبب عذاب بفنوس، وإنما كان حرصه على النعيم سبب عذابه. وقل أن يحرص إنسان على نعيم الآخرة كلها ويزهد في متاع الدنيا ونعيمها جميعًا.
هذا ما يريده أناتول فرانس حين فصل عذاب بفنوس وسخر منه، ولو أن بفنوس كان على إيمانه متسامحًا وعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ولآخرته كأنه يموت غدًا، وأوغل في الدين برفق، لما تقطعت به الأسباب، ولما انتقل من النقيض إلى نقيضه فكفر بعد إيمان وطلب لذة الحياة بعد الزهد فيها.
•••
صورة بفنوس هي النقيض من صورة أناتول فرانس. وأناتول فرانس لم يدع واحدًا من كتبه إلا رسم فيه صورة من نفسه؛ فهو «برجريه» في أربعة أجزاء (تاريخ العصر)، وهو «بروتو» في (الآلهة ظمأى)، وهو «بيير» في أربعة كتب كتبها عن طفولته وبدء صباه، وهو «جيروم كوانيار» فيما عزاء من قصص وذكريات ومذكرات إلى «جاك تورنبروش»، وهو «نسياس» في قصة «تاييس». وأي مؤلف ينسى نفسه حين يكتب؟ وأي مؤلف يكتب عن شيء غير نفسه؟ وأي قارئ يرى فيما يطالع غير نفسه؟ والذين يقرأون أناتول فرانس سعداء؛ لأنهم يجدون في صورة المؤلف ما يجذبهم إليها ويجعلهم يحبونها إن كان صاحبها قد اتسعت نفسه فوسع العالم وما فيه حبًّا، ووسع العالم وما فيه سخرًا وإشفاقًا.
نسياس أبيقوري مترف يتمتع من الحياة بكل لذائذها من غير تهافت على هذه اللذائذ أو حرص عليها، وقد استمتع «بتاييس»، فلما جاء صديقه القديم بفنوس لهدايتها وطلب إليه رداء يستر به مسوحه نصح إليه نسياس أن يحذر انتقام الزهرة، ولم يفكر في أن يصده عن غايته، فلما وثق بفنوس من تاييس صحبها إلى مائدة كان نسياس بين من دعوا إليها. وقضت تاييس الليل تسمع إلى حديث الفلاسفة، فلما آن الليل أن يولي كان القوم قد أمال الشراب أعناقهم، فخرج بفنوس وتاييس إلى دارها فحرقا متاعها وانطلقا يبغيان الصحراء، فأحاط بهما أطفال رجموهما بالأحجار، ولم ينجهما منهم إلا أن جاء نسياس فنثر الدراهم بين الصاخبين فشغلهم ونجا بصاحبيه. ثم كان بين الثلاثة حديث يمثل نفس نسياس، ويمثل نفس فرانس، ويمثل الشك واللاأدرية في أجمل صورها؛ فقد ذكر نسياس في أسف مطمئن مغادرة تاييس الإسكندرية، فأجابته أنها ملَّته وأمثاله المترفين وملَّت ما تعرف، وأنها تريد البحث عما لا تعرف، وترجو أن تجد المسرة في الألم كما قال لها بفنوس؛ لأن بفنوس قد ملك الحقيقة.
قال نسياس باسمًا: أما أنا أيتها النفس الصديقة فأملك الحقائق، ولئن لم يكُ لديه منها إلا واحدة فهي عندي جميعًا؛ فأنا أكثر منه ثروة وإن لم أكن، والحق يقال أكثر منه لذلك كبرًا ولا أعظم سعادة.
ولما رأى الراهب يسدد إليه نظرات كأنها اللهب قال: لا تحسب يا عزيزي بفنوس أني أراك سخيفًا كل السخف أو بعيدًا كل البعد عن موجب العقل، ولو أني قارنت حياتي بمثالك لأرتج عليَّ القول أيهما أفضل لذاتها. فهأنذا ذاهب الآن أغتسل في الحمام الذي أعدته كروبيل ومرتال، ثم آكل بعد ذلك صدر دراج من دراريج فاز، ثم أقرأ للمرة المائة بعض أساطير «آبيوليه» أو بعض رسائل «بورفير»، أما أنت فستذهب إلى صومعتك فتنيخ كما ينيخ الجمل الوادع، وتلوك من التسابيح ما طال بك عهد مضغه ولوكه؛ وإذا أمسيت تبلغت بالفجل من غير زيت. أترى يا صديقي أننا فيما نقوم به من هذه الأعمال المختلف ظاهرها ألا يذعن كلانا لعاطفة واحدة هي وحدها المحرك لأعمال بني الإنسان طرًّا؟ فكلانا يسعى وراء لذته يبغي غاية مشتركة هي السعادة، هي هذه السعادة المستحيلة. فليس من حسن الذوق يا صديقي أن أنسب إليك الخطأ إذا أنا نسبت إلى نفسي الصواب.
«وأنت يا تاييس فاذهبي وتمتعي، وإن استطعتِ فكوني في الزهد والتقشف أكثر سعادة مما كنتِ في الغنى والمسرة، وإنك على كل حال لتُحسدين. فإذا كنت أنا وبفنوس قد أطعنا طبعنا ولم نسعَ إلا وراء لون واحد من ألوان الرضا، فإنك أيتها العزيزة تكونين قد طعمتِ في الحياة لذائذ متضادة قلما كان لإنسان من الحظ أن يعرفها. والحق أني أود أن أكون مدى ساعة قديسًا كعزيزنا بفنوس، لكن ذلك ما ليس لي إليه سبيل. فالوداع إذن يا تاييس، اذهبي حيث تقودك القوى الخفية في طبيعتك وفي حظك، اذهبي تصحبك خير أماني نسياس. ولئن تكن هذه الأماني خلاء فهل أستطيع أن أمنحك خيرًا من عقيم الحسرات وفارغ الأماني ثمنًا لما اشتملني بين ذراعيك من لذيذ الأحلام التي لا يزال خيالها إليَّ باقيًا؟! الوداع يا من أحسنت إلي! الوداع يا رحمة لا تعرف أنها رحمة! يا فضيلة تحوطها الأسرار! يا لذة الناس طرًّا! الوداع يا أبدع صورة ألقت بها الطبيعة على وجه هذا العالم لغاية غير معروفة؟»
فلما أتم حديثه كان الراهب قد نفد صبره، فانسابت من فمه لعنات نظمها أناتول فرانس خير نظام، فكان جواب نسياس أن نظر إليه نظرة رفق وعطف وقال: الوداع يا أخي، ولعلك مستطيع أن تحتفظ حتى الفناء الآخر بكنوز إيمانك ومقتك وحبك! وداعًا يا تاييس! عبثًا تنسينني ما دمت حفيظًا على ذكراك.
كذلك قال نسياس. ولا يحسب القارئ أني أحسنت النقل، فكل نقل لعبارة أناتول فرانس إلى غير لغته يجني عليها، وما أحسب أحدًا ممن حمَّلوا أنفسهم عناء ترجمته إلى غير لغته إلا نظر إلى ما صنع فذكر قول نسياس: لو أن الفضيلة حصرت في المجهود وحده لكانت الضفدعة، التي تنتفخ لتعظم حتى تصير كالعجل، مؤدية أكبر عمل من أعمال الرواقيين.
•••
تاييس وبفنوس ونسياس هم أكثر أشخاص قصة تاييس حياة وحركة، وقد أحاطهم فرانس بعدد جم من الرهبان أمثال بفنوس، والرواقيين أمثال نسياس، وبجميلتين تأكل الغيرة صدرهما حقدًا على تاييس لتفوقها عليهما في الجمال. ولئن لم يكن لهذا العدد الجم غير دور ثانوي في القصة، فقد رسم فرانس صورة كل واحد منهم بما طبع عليه من دقة؛ فالجميلتان فلينا ودروزيه تنفسان على تاييس جمالها وتنافسانها في استهواء الشبان، كما تنفس كل امرأة على كل امرأة وتنافسها. والرجال ينظرون إلى النسوة الثلاث بما ينظر به كل رجل إلى كل امرأة من عطف، ويملقونهن بالكلام الرقيق العذب الذي يسحر به الرجل المرأة كما يسحر الطاووس أنثاه بريشه والبلبل أنثاه بصوته. فأما الفلاسفة زنوتوميس وهرمدور ودريون والمسيحي ماركوس وأصدقاؤهم في الوليمة، فليسوا أشخاصًا ذوي حياة تتجلى في صلات أفراد الرواية بعضهم ببعض، وإنما هم أمثال للمذاهب الفلسفية والدينية التي كانت إسكندرية ذلك العصر الذهبي مهدًا لها. على أنك لا تعدم مع ذلك أن تجد في حديث كل واحد منهم ما يرسم أمامك منه صورة تميزه عمن سواه من أهل مذهبه، وتجعله إنسانًا يخضع رأيه وإيمانه لميوله وشهواته، شأننا جميعًا في الحياة.
أما الرهبان والقديسون متدينة الصحراء فبينهم من الشبه في ازدراء الحياة ما بين النساء في محبتها والحرص عليها.
•••
تلك قصة تاييس، وأولاء هم أشخاصها، وهي عند كثيرين أفضل كتب فرانس. ولعلك إذا دخلت حديقة أو عند جوهري تتردد كثيرًا أي أزهار الحديقة البديعة النظام أبهى وأي أحجار الجوهري الدقيقة الصنع أكرم! وذلك رأينا في كتب أناتول فرانس. وهو عندنا على ما قال جول لمتر: «أسمى خلاصة للروح اللاتينية وأبهاها.»