أناتول فرانس (٤)
أناتول فرانس — ذلك الشيخ الذي ذهب أول هذه الحرب رغم مجاوزته السبعين من العمر، يريد أن ينتظم جنديًّا للدفاع عن وطنه فرنسا — هو رأس طائفة المتشككة من كتَّاب هذا العصر في فرنسا وفي العالم أجمع؛ فهو لا يؤمن بمذهب ويعتقد كل المذاهب، وهو يرى الحياة سخرية سخيفة لا معنى لها، ويجدها ذات لذة وجمال، وهو يحب الفقراء ويحتقر الضعفاء، ويعجب بالقديم ويولع بالجديد، وهو يهزأ من كل شيء، ويسخر من كل عمل، ويضحك مما يجله الناس، ويبسم أمام ما يقدسون. وهو مع ذلك لا يخفي ميله للأبيقورية على أنها أعقل من سواها من المذاهب الأخرى العاقلة جميعًا؛ لذلك كانت كتبه ورواياته ليست تلك الغابة القطوب التي تأخذ لبك وتدلك بقطوبها على عظمة شجر السنديان أو البلوط وقوته على كل ما سواه؛ ولكنها الحديقة الغناء تنتقل فيها من زهرة إلى فاكهة إلى فرش سندسية إلى خرير النبع الجميل المنحدر من قمة التل تتوِّجه الأشجار الكبيرة تغرد فوقها الطيور المختلفة اللون والصوت. وهذه الحديقة ليست متروكة للطبيعة ينمو بعض أجزائها على حساب البعض الآخر، بل هي مشمولة بعناية الإنسان ورعايته؛ فكل ما فيها من زهر وفاكهة وغرس ونبع وتل وشجر وطير مختلف جمالًا وصحة ونضارة، وكله يأخذ بنظرك ويستدعي التفاتك ويبعث إلى نفسك أبدًا سرورًا رقيقًا، حلوًا يجعلك دائم الابتسام؛ لأنه سرور النفس والعقل وليس سرور الحس المضطرب بتيارات يستدعي الضحكة العالية ليعقبها بدمعة مرة.
ومن العسير أن يقال أي كتبه المفضل، فمن بين كتبه الأربعة والثلاثين أو الستة والثلاثين يقع كل قارئ على عدد منها غير قليل يستدعي كل إعجابه. على أن ما لا شك فيه أن كتابه عن الثورة الفرنساوية الذي وضعناه عنوانًا لهذا المقال هو من خير كتبه، وأدقها تصويرًا لعصر كثر عنه الكاتبون. وناهيك بالثورة الفرنساوية؛ فما نحسب مؤرخًا ولا سياسيًّا ولا شاعرًا ولا روائيًّا ولا خطيبًا ولا صحفيًّا، إلا تناولها في ما كتب عنه، واستشهد به ووصفه واستظهره. وكثير من أولئك قام بما قام به بطرافة وقوة لا ينكرها عليه أحد، لكن أناتول فرانس من بين هؤلاء جميعًا كان أدق مصور فني يمكن تذوقه؛ فهو لم يكن فوتوغرافيًّا جمع رجال الثورة، وفي يد كل منهم مجموعة خطبه وكتبه ليأخذ منهم صورة كصورة الموظفين الذين يجتمعون تذكارًا لسفر أحد رؤسائهم؛ بل كان ذلك المصور النابغ الذي يلقي نظرة عامة على ما أمامه ثم يتجه لركن يأخذ بنظره، فيستظهر المحيطات الدقيقة والجليلة التي حول ذلك الركن والأضواء المتسلطة عليه والغمام المتراكم فوقه. وأنت فلا تلبث أن ترى الصورة التي أبدعتها ريشة المصور حتى يظهر أمامك مجموع الثورة ناطقًا قويًّا ظاهرًا ببوارزه وخوافيه وبفظائعه وفضائله وبما فيه من جمال وقبح. ترى في هذه الصورة التي رسمها فرانس ما كان قوامًا للثورة من فظيع المجازر؛ وترى فيها تحت الفظائع والفضائل النفس الإنسانية كما هي، مدفوعة بطبائعها في الطريق الذي لا تعرف لسيرها في سبيله سببًا. في هذه الصورة تظهر العواطف والشهوات والعلاقات الجنسية طبيعية بسيطة لا تعرف هياج روسو ولا أوهام شاتو بريان، كما تظهر فيها نفسية الشعوب في حالة الثورة نفسية عادية تافهة ميالة للركود لولا النفوس القوية المتطلعة للكمال، والتي تؤثر بسحرها على نفس المجموع المطبوع على عبادة القوة والبطولة. ويظهر فيها كذلك ما لقوة الإيمان من أثر في الوصول إلى ما يريده المؤمن مهما تقم في وجهه المصاعب والعقبات، ما دام لا يرى إلا الغاية التي يحددها له إيمانه، وما دام لا يحول نظره إلى غاية سواها.
•••
«أفارست جاملن» بطل الرواية نقَّاش شاب يعيش مع أمه العجوز في حي القنطرة الجديدة من أحياء باريس الثائرة، ويهتم للسياسة اهتمامًا صرفه عن المثابرة على النقش وعن كسب ما يعيش منه هو وأمه عيشًا معقولًا. وكان له أخت هجرت البلاد مع شاب من الأشراف الذين هاجروا أول الثورة. ويسكن في أعلى غرف الدار التي يقطن حكيم اسمه (برتو)، كان شريفًا وكان ذا مال ونعمة، فلما استولت الثورة على أموال الأشراف وامتيازاتهم ترك برتو ماله ولقبه غير آسف، وقنع من الحياة بوكره الذي كان يتسلق إليه تسلق الحيوان إلى عش الطائر، وعكف على قراءة (لوكريس)، وعلى صنع لعب للأطفال يجد منها ما يقيته. وكان لبرتو صديقة قديمة من الأشراف تدعى مدام رشمور، عرفت كيف تنتقل من العصر القديم إلى الثورة مع الاحتفاظ بمالها ونعمتها، ومع الاستمرار على دعوة الكبراء والمعروفين إلى حفلاتها الراقصة. فعرض لها ذات يوم خاطر أن تسعى لتعيين جاملن محلفًا في المحكمة الثورية. ومع ما أظهره لها برتو من التخوف من هذه المحكمة التي تدفع إلى (الجليوتين) المرأة البغي وماري أنتوانيت، والتي تؤلب الفرق المتنازعة ضدها بما تصبه عليهم جميعًا من جامات غضبها، فقد نجحت رشمور وتعيَّن جاملن محلفًا. ومن ذلك اليوم ازدادت حبيبته (ألودى) تعلقًا به وشغفًا. ولما استفسرها عن ماضيها أخبرته أن شابًّا من الأشراف استغواها، فملكت هذه الفكرة على المحلف الجديد نفسه، وجعل يرقب في كل شريف يعرض للمحاكمة مغريَ محبوبته، فلما اتجهت شبهاته لأحد الأشراف الذين قدموا للمحاكمة والذين كانت الأدلة عليهم تافهة لم يألُ جهدًا في إقناع زملائه بأنه رجل مجرم خطر على البلاد قدير على قلب الحكومة، وكأنما كان يقول في نفسه: إن أولئك الذين لا يعبأون بالعِرض ولا بالشرف بالنسبة لفتاة تستسلم إليهم جديرون أن يكونوا كذلك مع أمة يجدون إلى استلام زمامها الوسيلة. ومع عدم اقتناع أكثر الباقين، فقد انتهى الحال بأحد المحلفين إلى أن قال لجاملن: يجب أن يتبادل الزملاء الخدمات في ما بينهم حتى هنا يا صديقي. وانضم لصف جاملن وحكم على الشريف بالإعدام وأعدم.
وجاملن شاب طاهر القلب طيب النفس قوي الإيمان بمبادئ الثورة، حقيق أن يكون من أتباع مارا وروبسبيير اللذين كانا آلهة العصر وموضع إعجابه وعبادته؛ لذلك لم يخطر بباله أن يبرئ أحدًا إلا مرة أول تعيينه، أما بعد ذلك فقد كان يرى في القُواد الذين انهزموا، وفي الفتيان الذين يصيحون «يحيا الملك» في الميادين العامة، وفي الأشراف الذين يُتهمون بالارتباط مع الأعداء أخصامًا للثورة، قديرين جميعًا إذا لم يكبح جماحهم بالقتل أن يقبلوها ويعيدوا نظام العهد القديم. وكان يعتقد أن شرف المساواة الذي نشرته مبادئ الثورة ليس مقصورًا على الحقوق التي يتمتع بها الأفراد، بل هو ممتد إلى العقوبات التي تنزل بهم أيضًا. على أن شرف المساواة في العقوبة هو الذي كان في يده دون شرف الإمتاع بحقوق الحياة الذي لم يكن في يد أحد؛ لذلك حقق هو وزملاؤه المحلفون والقضاة أعضاء المحكمة الثورية الشرف الأول، ولم يستطع أحد أن يحقق الشرف الثاني.
ولما عرض أمر رفيق أخته على المحكمة لم يكن أكثر إشفاقًا في هذا الظرف منه في أي ظرف آخر، بل رفض أن يرد نفسه قائلًا: إن سلام الجمهورية أعلى من أن تؤثر فيه علاقة أو عاطفة. وكذلك أعدم «دشاساني» مع من أعدم.
وفي هذه الأيام غضب الضابط هنري رفيق مدام رشمور منها فسرق خطابًا كانت موجهة إياه لأحد الأشراف المهاجرين، وقد ذكرت فيه ما قاله برتو عن المحكمة الثورية وعن الجيوش المحاربة. ولما سرقه وعرضه على رجال الإدارة كانت النتيجة أن قبض على رشمور وبرتو وحليف لبرتو من القسس يُدعى لنجمار، وفتاة احتمت عند برتو ولنجمار من أبحاث السلطة وتفتيش رجال الثورة، وأودعوا جميعًا في السجن.
ولما كانت المحكمة الثورية قد ضاقت ذرعًا بالتحقيقات العادية، وبالمتهمين يقدمون إليها واحدًا بعد الآخر، فقد صدر قانون يبيح محاكمة من يشتمُّ من أعمالهم أنهم يتآمرون بمجرد جمع الأدلة، ثم يحصل البحث في المحكمة. فلما قدم برتو وصحبه وتلا المدعي العمومي ورقة الاتهام التي جاء فيها من تهم برتو أنه قال: «إن المحكمة الثورية تشبه روايات شكسبير التي تخلط بين أفظع المناظر الدموية وأسخف التفاهات، وإنه ينتظر من وراء انتصارات الجمهورية أن يجيء أحد هؤلاء الذين يحملون السيف فيبتلع الجميع كما ابتلع الطائر الضفادع في الخرافة.» ومن تهم رشمور أنها متصلة بالخارج ومختلطة بالمرتشين. لما تلا المدعي العمومي ورقة الاتهام وسئل برتو: هل تآمرت؟ أجاب: أنا لم أتآمر، وكل ما جاء في ورقة الاتهام التي سمعت الآن باطل. فكان الرد عليه: ألا ترى أنك تتآمر الآن من جديد ضد المحكمة؟!!»
وبعد ذلك، وبعد أن سئم الناس القتل والدماء، رأت الجمعية الوطنية أن روبسبيير قد بلغ حدًّا أصبح لا يطاق معه، فاعتبرت أعضاء الأقسام المنضمة إليه وأعضاء المحكمة الثورية ومحلفيها كلهم خوارج على القانون ويجب إعدامهم، وأعدموا وأعدم جاملن.
•••
هذه الصورة التي أبدعها أناتول فرانس، والتي نقلنا هنا ظلًّا منها قد لا يوازي ما ينقله الكارت بوستال عن أبدع صور اللوفر، لا يمكن أن يتذوقها إلا من يقرؤها ويعيدها ثم يعيدها غير مرة، وحينئذ تتبدى له الثورة الفرنساوية كلها وكيف كانت، وتنقشع من أمامه الغيوم التي يجدها في كتب التاريخ الجامدة، والتي تنقل حكاية الحوادث كما تنقل الأجواء صدى الصوت البعيد.
وإني لفي غنى عن أن أذكر شيئًا عن أسلوب أناتول فرانس، وألوان ذلك الأسلوب الدقيق الهادئ الرزين لا تشعر معه بالتكلف، بل تسيغه سهلًا عذبًا ينساب إلى نفسك فلا يهزها هزات عنيفة كأسلوب الشعريين، ولا يستوقفها بيبوسته التحليلية. ومع ذلك فلن تجد تحليلًا ولا شعرًا أبدع مما عند أناتول فرانس. وإنَّ وصف أشخاص رواية الآلهة لأكثر ما تكون الصورة دقة في التحليل. وبحسب أسلوب فرانس مقدرة على اشتمال فضائل كل الأساليب أنه سهل ممتنع لا تستعصي عليه صورة، ولا يتعقد معه رأي. وبحسب رواية الآلهة أنها كتبت بهذا الأسلوب، وأنها رواية الثورة الفرنساوية، أكبر ثورة عرفها التاريخ وأبعدها في حياة الأمم أثرًا.