أناتول فرانس (٥)
•••
ماتت ماري باشكير ستف، التي نشرت يومياتها أخيرًا، منذ أربع وعشرين سنة، وكانت وفاتها في ٣١ أكتوبر سنة ١٨٨٤، وقد خلَّفت عدة نقوش وبعض صور تنبئ عن حب خالص للطبيعة وعن هيام وولع بالفن، وكانت حفيدة الجنرال جريجوريفتش باشكير ستف أحد من تولوا الدفاع عن سباستوبول، كما كانت تزهى بأن في عروقها دمًا تتريًّا عريقًا ورثته عن أمها. وكانت بيضاء اللون بديعته، حمراء الشعر، ناهدة الخدين، قصيرة الأنف، عميقة النظرة، ذات شفاه كأنها شفاه الطفل. وكانت صغيرة الجسم جميلة التكوين، وكان هذا من غير شك سبب ولعها بالنظر إلى التماثيل، حتى لكانت وهي في الثالثة عشرة من عمرها تمضي الساعات أمام تماثيل الرخام في متحف الكابتول بروما. ولم تكن يداها الرقيقتان البيضاوان على أحسن صورة، لكن مصورًا ذكر أن الطريقة التي كانت توضع بها هاتان اليدان على الأشياء كانت غاية في الجمال، لكنها مع ذلك قلما كانت تصف نفسها في يومياتها، وإنما ألاحظ صورة كتبتها في ١٧ يولية سنة ١٨٧٤ بالغة في جمال التنسيق، قالت: «شعري أشد ما يكون حمرة، وعليَّ فستان من الصوف الأبيض رشيق حسن الهندام، وطرحة من الدنتلا حول العنق، وكأني بذلك إحدى صور الإمبراطورية الأولى، وإنما أحتاج لكمال تلك الصورة إلى أن أقف تحت شجرة، وأن أمسك بيدي كتابًا.» ثم أضافت إلى ذلك أنها تحب الوحدة أمام المرآة.
وكانت أكثر إعجابًا بصوتها منها بجمالها، حتى كان من أولى أمانيها أن تصبح مغنية عظيمة.
وقد أرادت أن تبدو كما هي بنقائصها وفضائلها، وبعدم ثباتها وبدوام تناقضها، لكن أنفتها أبت عليها أن تعترف بشيء لشخص مهما يبلغ من قدره، فكشفت في يومياتها عن نفسها للعالم كله.
أيُّنا لا ينال بإشفاقه وعفوه تلك الطفلة المسكينة التي كانت بائسة أن لم تحظ بالطفولة! وليس على أحد في ذلك من ذنب؛ فإن ماري باشكير ستف لم تكن أبدًا من أولئك الذين عناهم الإله الذي كانت تعبده كل يوم بأنهم وحدهم حقيقون أن يدخلوا في ملكوت السموات، فهي لم تعرف قط تلك اللذة الرقيقة؛ لذة التواضع والصغر، بل طارت بجناحيها في الخامسة عشرة من عمرها ولم يبقَ للعش الذي طارت عنه ذكر عندها؛ لذلك كان ينقصها دائمًا البساطة والمرح الساذج.
وأول الأسرار التي تبوح لنا بها في يومياتها ألعوبة بدأتها في أيام الكرنفال في روما، وكان كل ما انتهت إليه منها قبلة بين عينيها، وقد أبدت الفتاة في ذلك غير قليل من الخلاعة والحيلة؛ فقد قال لها ابن عم الكردينال، وكانت اتخذته في ذلك العيد رفيقًا: وا أسفا، فأنت لا تحبينني!
– كلا.
– أليس لي أن آمل؟
– بلى، يجب أن تأمل دائمًا، فالأمل في طبع الإنسان، لكني لا أترك لك من جهتي حظًّا فيه.
وأظهر ابن عم الكردينال غاية الظرف والرقة، لكن ماري باشكير ستف لم تخدع له، ثم إنها ترددت بعد ذلك … «لو أنني اعتقدت ما قاله لبلغت بذلك غاية السرور، لكني داخلني الشك رغم مظهره الصادق الرقيق البسيط. وذلك حظ الشقي من شقاوته.» ثم أضافت: «على أن الخير فيما وقع.»
وهي لم تكن ترغب مطلقًا في التزويج من المسكين بترو، بل فكرت: «لو كنت زوجة إذن لقضيت على ثروته وقصوره ومتاحفه؛ فإن بي من الطمع والكبرياء ما لا حد له. والعجب أن يحب شخص مخلوقًا ذاك شأنه لا لشيء إلا لأنه يعرفه، أو لو عرف هذا المخلوق … أواه … أنه مع ذلك لا يحبه.»
وكان الظهور والاستلفات والإشراق أملها الدائم، وكان الكبر يقتلها؛ فقد كانت تردد من غير انقطاع: «أواه لو كنت ملكة.» وكانت تصيح أثناء رياضتها في روما: «أريد أن أكون قيصر أو أغسطوس أو ماركس أورليس أو نيرون أو كاراكالا أو الشيطان أو البابا.» وكانت لا تجد جمالًا في غير الأمراء، أما سائر الناس فلا يستحقون نظرة ولا التفاتًا.
وكانت الأفكار المتناقضة تختلط في رأسها فتضطرب فيه اضطرابًا غريبًا، فقد كانت تقية ورعة تصلي لله صباح ومساء، وتطلب إليه أن يهبها أميرًا تتزوجه وصوتًا حسنًا وصحة كصحة أمها، وكانت تصيح: «ليس شيء أدعى للفزع من عدم القدرة على العبادة.» وكانت تخلص التوجه للعذراء وتقوم بطقوس الديانة الأرثوذكسية، وكانت تتعرف المستقبل في مرآة مكسورة، حيث كانت ترى جمًّا من الصور الصغيرة وأرض كنيسة من الرخام الأبيض والأسود، كما كان يبدو لها في تلك المرآة نعش في بعض الأحايين. وكانت تستشير المخرِّف ألكسس الذي كان يرى الكردينال أنتونللي في نومه، كما كانت لا تحجم عن أن تدفع دينارًا للعرَّافة جاكوب كي تفتح لها الغيب. وكانت تعتقد بكل الخرافات، فكانت مقتنعة بأن عين البابا بيوس التاسع حاسدة، وكانت توجس شرًّا إذا هي رأت الهلال الجديد بالعين اليسرى، إلا أن آراءها كانت سريعة التغير في كل لحظة، فقد سألت نفسها فجأة وهي في نابولي: «أي شيء ذلك الروح الخالد الذي يطير شعاعًا لكل تخمة تصيبنا؟» ولم تفهم كيف يترتب على ارتباك في المعدة أن يطير الروح السماوي إلى بارئه، واستنتجت من ذلك أن ليس ثمت روح، وأن هذا الاسم «محض اختراع» … ثم لم يمضِ على ذلك إلا أيام حتى وضعت مسبحة في عنقها؛ لتشابه بياتركس، «ولأن الله في عظمته المجردة لا يكفينا، فيجب أن تكون في حيازتنا صور ننظر إليها وصلبان نقبلها.»
وهي رشيقة وهي مجنونة، لكن هذا الرأس المضطرب ممتلئ امتلاء رأس قارئ كتبٍ قديم؛ فقد قرأت ماري باشكير ستف — ولم تعد السابعة عشرة من عمرها — أرسطو وأفلاطون ودانتي وشكسبير، وكانت حكاية أميدي تييري للتاريخ الروماني تأخذها عن نفسها، وكانت تذكر مغتبطة «كتابًا مفيدًا عن كونفوشيوس»، وكانت تحفظ عن ظهر قلبها هوراس وتيبيل وأمثال سيرس، وكانت تتذوق شعر هوميروس إلى أعمق نفسها … ومن قولها: «لن يستطيع أحد أن يتخلص من عبادة القدماء … فلم تترك مأساةٌ حديثة ولا قصة ولا مهزلة مما يكتب دوماس أو جورج ساند في نفسي ذكرًا باقيًا ولا أثرًا عميقًا صريحًا كالأثر الذي تركه فيها وصف الاستيلاء على ترواده؛ فإني يخيل إليَّ أني شهدت هذه الفظائع، وسمعت تلك الصيحات، ورأيت النار تشتعل، وكنت وأسرة بريام مع أولئك التعساء الذين كانوا يختبئون وراء محراب القرابين التي كانوا يتقربون بها لآلهتهم لتكشف عنهم النيران الملتهبة في مدينتهم، ولا تسلمهم إلى أعدائهم … وأينا لا تعروه هزة حين يصل من قراءته إلى طيف كروز.»
وكان رأسها مخزنًا تختزن فيه مختلف الكتب والروايات من غير ترتيب، وكانت دائبة على السياحة تذهب من نيس إلى رومة، ومن رومة إلى باريس، ومن باريس إلى بطرسبورج وفينا وبرلين. وإذ كانت لا تستقر أبدًا فقد كانت السآمة تتولاها أبدًا، فكانت ترى حياتها مرة خلاءً حتى كانت تقول: «في هذا العالم كل ما ليس أليمًا سخيف، وكل ما ليس سخيفًا أليم.» وكان ينقصها كل شيء لأنها كانت تريد كل شيء، وكانت لذلك في هم مفزع، ترسل حولها صيحات الألم، لكنها مع ذلك كانت تحب الحياة. قالت: «إنني أجدها طيبة، فهل يظن ذلك أحد؟ وأجد كل شيء فيها طيبًا لذيذًا حتى الدموع وحتى الألم. إنني أحب أن أبكي وأحب أن أيأس، أحب أن أكون حزينة آسية، أحب الحياة بالرغم من كل شيء. إنني أحب أن أحيا، ومن القسوة أن أموت وأنا كذلك مؤاتية لينة.»
وكانت تمر بها ساعات تشعر فيها شعورًا مبهمًا مفزعًا بالمرض الذي اندس إليها، وهي قد شعرت به من ربيع سنة ١٨٧٦ إذ كتبت في أول يونيو: «الساعة وأنا خارجة من غرفة زينتي مر بي طيف مفزع؛ فقد رأيت إلى جانبي امرأة في ثوب طويل أبيض تحمل النور في يدها، وتنظر إليَّ ورأسها منحنٍ شاكٍ على مثال طيف أساطير الألمان. لكن مهلًا! إن هذا الطيف لم يكن إلا خيالي عكسته المرآة. ألا كم أخشى أن تكون هذه الآلام النفسانية منشأ مرض جسماني!»
وفي سنة ١٨٧٧ تولَّت هذه النفس الحائرة شهوة واحدة، فكرَّست ماري باشكير ستف كل وجودها للتصوير، وجمعت له كنوز ذكائها المشتتة، واجتمعت عنده كل آمالها في المجد، ولم يبقَ لها من حياتها غاية إلا أن تكون فنانة كبرى، فأجهدت نفسها في الدرس في أكاديمية جوليان؛ ولم يمضِ غير قليل حتى كانت من خيرة تلاميذها، وكان ذلك بعض تلك الانقلابات الفجائية التي تجد لها مثلًا شتى في حياة الصالحين، والتي تنبئ عن طبع مخلص متطرف كثير التحول. ومن ذلك الحين لم يبقَ للأمراء عندها قدر، بل أصبحت جمهورية اشتراكية، بل ثورية بمقدار؛ فلم تعد تلبس لبس المترفين، وتسربلت بالجلباب الأسود الذي ترتديه النساء الفنانات، واكتشفت جمال البائسين وأصبحت مخلوقًا جديدًا. ولم يمضِ إلا ستة أشهر حتى كانت على رأس فرقتها مع مدموازيل برسلاو.
وفي انتظار المجد الذي كانت ترجوه كانت منكبة على العمل مجدة فيه، وقد رأت في ٢١ يناير سنة ١٨٨٢ لأول مرة باستيان لوباج، وكانت تعجب به وتقلد نقوشه. «وهو صغير الحجم، شعره لون الذهب، ناتئ الأنف له لحية الشباب، وكان يومئذ مصابًا بالمرض الذي قضى على حياته بعد قليل.» وهي الأخرى كانت تشعر بأن إصابتها شديدة، فقد مضى عليها سنتان يهزها سعال ممزق، وكانت في خلالهما تزداد نحافة، وفي خلالهما أصيبت بالصمم. وقد أدخلت هذه العاهة اليأس إلى نفسها، فكانت تقول: «لم يخلقنا الله لنألم. وإذا كان هو الذي خلق العالم فلمَ خلق الشر والألم والسوء …؟ إنني لن أبرأ وسيبقى بيني وبين العالم حجاب، فلن أسمع حفيف الريح في الشجر، ولن أسمع خرير الماء المتساقط على ألواح النوافذ، ولا الكلمات التي تلفظ بصوت واطئ. كلا، لن أسمع من ذلك كله شيئًا.» ثم لم تلبث أن علمت أن صدرها مصاب وأن رئتها اليمنى تفنى، فصاحت: «فليتركوا لي من اليوم عشر سنوات، وليتركوا لي خلالها الحب والجد، فأموت في الثلاثين مطمئنة راضية. ألا لو وجدت من يعاهدني على ذلك لعقدت معه أن أموت في الثلاثين بعد إذ أكون قد حييت.»
إني أسعل الوقت كله رغم حرارة الجو، وقد أخذتني سنة على المتكأ عصر اليوم أثناء راحة النموذج، فرأيت نفسي نائمة وإلى جانبي شمعة موقدة!
أتراني أموت؟ لشد ما أخاف ذلك.
وهي اليوم والحياة تفر منها تغرم بالحياة حبًا؛ فالفنون والموسيقى والنقش والكتب والناس والثياب والترف والصحة والضحك والحزن والأسى والحب والقمر والشمس والفصول كلها وسهول روسيا الساكتة وجبال نابلي والثلج والمطر والربيع وجنونه، وأيام الصيف الهادئة ولياليه البديعة ذات النجوم … كل ذلك هي تحبه وتعجب به … لكنها يجب أن تموت: «والموت كلمة سهل أن نقولها وأن نكتبها، لكن التفكير في أمرها … الاعتقاد بأن الإنسان سيموت عاجلًا! … وهل تراني أعتقد ذلك؟ كلا، ولكني أخشى.»
وبعد أيام من ذلك أزاحت عنها هذه الأوهام التي تطوف حول مراقد المسلولين، وحدقت بالموت وجهًا لوجه: «ها هو ذا إذن غاية كل آلامنا. كم في الحياة من الآمال والرغائب والشئون و … ويموت الإنسان في الرابعة والعشرين عند أبواب ذلك كله.»
وفيما كانت تموت كان باستيان لوباج المحتضر يحمل كل يوم إليها. وفي يوم الاثنين ٢٠ أكتوبر وقفت يومياتها، وفي ذلك اليوم حضر باستيان لوباج معتمدًا على أخيه عند مرقد المريضة. وقد ماتت ماري باشكير ستف بعد أحد عشر يومًا من هذا التاريخ، «في يوم ملأ الضباب جوه، فصار أشبه الأشياء بما نقشته هي في إحدى صورها الأخيرة: الممشى.»
إن من المناظر التي تمس القلب دائمًا ذلك المنظر الذي نرى فيه الطبيعة والحب والموت متقاربين في مضيق بشع، لكن في حياة ماري باشكير ستف القصيرة ما أدري أية مرارة وأي يأس يقبض القلب. وإنه ليخيل للإنسان إذ يقرأ يومياتها أنها ماتت قبل أن تطفأ رغباتها … لذلك يسري طيفها متنقلًا في بعض الجهات ينوء بحمل من الرغبات الثقال.
وإني كلما فكرت في اضطراب تلك الروح المتعبة، واتبعت تلك الحياة المجتثة ألقي بها إلى كل رياح أوروبا زمزمت في إخلاص المتعبد بهذا البيت من شعر سانت بيف: