أناتول فرانس (٦)
كم خلق خيال بني آدم من صور، وكم أخذت هذه الصور تشبه الحقيقة زمنًا حتى جاءت صور غيرها ردتها إلى عالم الحلم والوهم، وقامت مكانها تزعم أنها الحقيقة الملموسة. ثم جاء عصر جديد زج بهذه الحقيقة في عالم الخرافات ليبني هو لنفسه اعتقادات وحقائق جديدة، من يدري كم يكون على الزمن بقاؤها! وهكذا يبقى بنو آدم يلعبون بالخيال والوهم ويلعب الخيال والوهم بهم؛ وهم في ذلك يحسبون أنهم يبتغون الحقيقة وفي أملهم أن يصلوا إليها يومًا ما.
وقعت على خرافة قديمة من خرافات اليونان، خرافة أبدعها خيال شاعر وطرح بها وسط قومه على أنها الحقيقة، واتخذها قومه مثالًا للحقيقة حتى تغير الزمان وتغيرت هذه الحقيقة معه. وفي هذه الخرافة فكرة حلوة خلابة لفتتني.
فقد زعموا أن يونيا هي التي خلقت جماعة البشر، ولم تخلقهم من أب واحد وأم واحدة كما قررت الأديان طرًّا، بل رأت — وهي محقة في كل ما ترى — أن خلق عدد كبير من هذا الجنس أضمن لسرعة العمارية في العالم؛ ولكيلا تستغرق زمنًا طويلًا في إبداع هذه الخلائق، ولتبعثها كلها في لحظة واحدة، قامت بادئ الأمر بتسوية كل عضو من الأعضاء منفردًا. فسوَّت عددًا من أذرع الرجال، وعددًا آخر من أرجلهم، ومثلها من الجماجم والقلوب وسائر الأعضاء. وسوَّت مثل هذا العدد من أذرع النساء وأرجلهن وصدورهن وسائر أعضائهن، ثم ما كادت تتم ذلك حتى دعاها باكوس إله الخمر لوليمة أولمها، فأجابت دعوته وذهبت مع من دُعي معها من الآلهة إلى الوليمة، وهناك أمضوا وقتهم في الشرب والطرب. وقامت يونيا ورجعت إلى عملها وقد ملكتها صورة الخمر، فلم تكد تميز أعضاء الرجال من أعضاء النساء، فجعلت من حين لآخر تضع في كيس مما أعدت لاحتواء هذه الأعضاء صدر رجل مع بقية جسم امرأة، وجمجمة امرأة مع بقية أعضاء رجل، وبعد إذ ملأت كل الأكياس نفخت فيها من روحها حياة وحركة، وكان ذلك مبدأ خلق الناس ومنه خرجوا، ومن بين رجالهم من يعاوده ضعف المرأة لأن صدره يحوي قلب امرأة، ومن بين النساء من تجد فيها شكاسة الرجل أو شدته لأنها أوتيت خطأً فؤاده أو ذراعيه. وبقي ذلك ميراثًا يتسلل على مر الأجيال.
هذه هي الخرافة التي كان يفسر بها اليونانيون ما نراه في بعض الرجال من الخنوثة وفي بعض النساء من الشكاسة، وهذه الخرافة أخذت صبغة الحق زمنًا ما، ثم جاء الحق الجديد فأزهقها وصرنا معاشر الناس من كل الأجناس أبناء آدم وحواء.
•••
ملحوظة: هذه الخرافة في كتاب من كتب أناتول فرانس، وعنه أخذنا فكرتها.