قاسم أمين (١)
لكل عصر في حياة أمة من الأمم مميزات خاصة، ولم يُعنَ المؤرخون بدرس هذه المميزات في أوروبا إلا في العصور الأخيرة، بعدما ثبت لهم أن مواليد الملوك ووفياتهم وما يقومون به من الغزو والفتح ليس هو وحده الذي يقيم حياة الأمم. كلا، بل ليس هو الركن في إقامة حياتها. وإن قيام الملوك ونزولهم عن عروشهم وما يتخلل ذلك من الحروب ليس إلا مظهرًا من مظاهر هذه الحياة؛ خصوصًا بعد إذ دُكَّ عرش الاستبداد وقامت الديمقراطية حاكمة آخذة بيدها النهي والأمر. وإنما قوام حياة الأمم مميزاتها من أخلاق وعادات وعقائد وآمال. تلك مجموعة المظاهر التي تصدر عن الأمة والتي تقوم عليها الحكومات والملوك والحروب. من يوم ثبت ذلك لعلماء التاريخ في أوروبا وجهوا عنايتهم الخاصة لبحث جميع المظاهر التي كانت تصدر عن المجموع الذين يريدون تعرُّف ماضيه، فلم يتركوا أثرًا يهدي لبعض هذه المظاهر إلا قفوه، وبذلك أمكن لهم أن يرسموا في التواريخ التي وضعوها صورًا مضبوطة من تلك الأمم، واستطاعوا من بعد ذلك أن يربطوا الحاضر بالماضي، وأن يقدموا بذلك لأنفسهم ولغيرهم من المفكرين وعلماء الاجتماع مادة جيدة غزيرة يمكن معها رسم أقوم الطرق للوصول إلى أحسن ما يرجى في المستقبل.
وكما كانت القوانين وكتب العقائد من تلك الآثار المفيدة التي عني المؤرخون ببحثها والتنقيب عن أصولها لمعرفة العلاقة بين الفرد وضميره وبين الفرد ونفسه وبين الفرد والفرد، كذلك كانت كتب المفكرين وكتَّاب الآداب من الآثار النفسية التي قامت نبراسًا لهداية الباحثين إلى عوائد الأمم وأخلاقها وطرق تفكيرها ونظام حياتها اليومي في أعمالها؛ ولهذا اتجهت عناية التاريخ إلى دراسة هذه الكتب على اعتبار أنها آثار اجتماعية لا مجرد مظاهر فردية، وانقطع كثير من رجال العلم للتنقيب فيها يريدون رد كل فكرة أو صورة أو خيال مما يجدونه إلى الأصل الاجتماعي الذي صدر عنه، كما استعانوا بها لتحقيق هذه الأصول الاجتماعية وتحديدها. وذلك المعنى هو ما أراده (تين) حين قال في مقدمة كتابه عن تاريخ الآداب الإنجليزية: لقد ظهر للمؤرخين أن الأثر الأدبي ليس مجرد حركة خيالية، ولا هو شهوة ساعة لرأس حامية، ولكنه صورة من الأخلاق وأثر من آثار الحال النفسية التي تحيط به. ومن الخطأ درس الأثر الأدبي على أنه عمل قائم بذاته، فما آي الإيمان بشيء لذاتها، وإنما هي أثر الذين وضعوها. وإنما يكون التاريخ الحق حين يبدأ المؤرخ يتعرَّف الرجل من خلال غيابات الزمن، ويميزه حيًّا عاملًا ذا شهوات وعوائد، مسموع الصوت منظور الوجه، ويرى إشارته وملابسه ويحيط به واضحًا كاملًا كأنما كان معه في الطريق ولمَّا يكد يتركه.
وظاهر أنه متى وصل المؤرخ من استفسار الآثار العقلية والأخلاقية والمادية لأمة من الأمم حتى أحاط بها إحاطة استطاع معها أن يعرض أمام النظر صورة دقيقة من الشعب الذي اختار في الزمن الذي اختار، كان من السهل عليه وعلى من يقف معه عند الصورة التي وصل إليها الاتفاق على رسم طرق الإصلاح والعمل لتوطئة مستقبل أقل أغلاطًا من الماضي وأكثر سعادة. ومن دونه يكون نظر كل فرد أو جماعة صغيرة للحاضر وأحواله وحوادثه محدودًا ضيقًا، وتكون الوسائل التي يتخيرها المفكرون للعمل خير في المستقبل متشعبة متناقضة متضاربة. ومهما تكن حياة الأمم من القوة فإن التشعب والتضارب في خطط السير التي ترسم لها تذهب بمجهودات المجموع فيها، ولا يكون لها حينذاك مهما حسن حظها إلا أن تقف في نقطة لا سبيل إلى التقدم بعدها. ووقوف الحي عن التقدم معناه التدرك إلى الفناء.
وإنه ليحزننا أن نقول: إن مميزات حياتنا والآثار التي صدرت عنها لم يُعنَ بالنظر فيها منا أحد؛ وترانا لذلك أشد ما نكون جهلًا بحقيقة حياة هذا الوادي الذي نعيش فيه، وبالتالي أبعد ما نكون عن معرفة الوسائل لإصلاحه، ولكم علت صيحاتنا طلبًا للإصلاح، ثم كم اختلفنا على هذا الإصلاح لا لشيء إلا لأننا نجهل حقيقة حالنا … إليها حتى يتم بعض ما نريد.
ولو عني بعض دعاة الإصلاح باستظهار صورة حية ناطقة من تاريخنا المتصل بحاضرنا أو البعيد عنه عناية المؤرخ الذي يريد أن يتعرف الرجل من خلال منائي الزمن، ويميز شهواته وعوائده، لوفروا علينا كثيرًا من مجهوداتنا الاجتماعية الضائعة، ولطرقوا باب الإصلاح الصحيح الذي منه يصلون.
لا أعرف مصريًّا كتب عن عوائدنا وعقائدنا ليظهر صلة ذلك بباقي مظاهر حياتنا القومية، ولا صلته بتاريخنا القريب أو البعيد، ولا أعرف مصريًّا فسَّر لنا صورة كتاب من كتابنا وجاهد ليرد أفكاره إلى مصادرها ويظهر حقيقة هذه المصادر. لا أعرف مصريًّا بذل أي مجهود جدي ليعلم المصريين تاريخ مصر.
وقفت على الجزأين الثاني والثالث من التاريخ الذي وضعه الشيخ محمد رشيد رضا عن المرحوم الشيخ محمد عبده. والشيخ رشيد إن لم يكن مصريًّا فهو متمصِّر. وفي هذين الجزأين ما كتب المرحوم من المقالات وما كُتب عنه حين وفاته من المراثي، ولكن الجزء الأول؛ الجزء الذي يحوي صورة الشيخ محمد عبده حية ناطقة متصلة بحياة العصر الذي عاش فيه متأثرة بهذا العصر مؤثرة فيه مفسرة له متفسرة به، هذا الجزء وهذه الصورة التي يريدها الناس من المؤرخ بقيا في صدره إلى الآن، وقد مضى على عزمه على إظهارهما عقد من السنين.
وقعتُ كذلك على بعض أجزاء مما كتب عن حياة المرحوم مصطفى كامل باشا. ولا شك في أن مصطفى كامل من الأشخاص الذين يفسرون جهة من جهات حياة هذه الأمة، ويتفسرون بها في العصر الذي ظهر فيه، ومع هذا كان كل ما في الأجزاء التي أذكر أني رأيتها جملة من الخرافات لا تفسر حياة الكاتب، ولا تبين صلتها بعصرها وتفسيرها له وتفسرها به بشكل من الأشكال.
ولا أذكر أن أحدًا فكر في استفسار كتابنا بعد هذا، اللهم إلا بعض مقالات في الصحف تظهر عن كل كاتب أيام حياته أو على أثر وفاته. هذا على أن كتَّابنا أمثال قاسم أمين وفتحي زغلول وعلي يوسف وغير هؤلاء وأولئك، قد كان لهم في حياة الأمة أثر غير قليل، كما أنهم كانوا مظاهر خاصة لحياة الأمة. وإذا كان هؤلاء لا يزالون على مقربة منا وقد عاشوا بيننا، وربما وجدوا فيمن بعدنا من يُعنى بمعرفتهم، فإن من هم أقدم منهم من الكتَّاب أمثال الجبرتي وابن إياس لم يجدوا من يُعنى بدرسهم ودرس ما كتبوا على اعتبار أنهم مظاهر اجتماعية للأجيال التي عاشوا فيها.
كذلك لم يُعنَ أحد بدرس ما سوى الكتاب من مظاهر حياة الأمة في الماضي وآثارها، بل كلنا نعيش للحاضر وفي الحاضر، نعيش وحدات مستقلة متأثرة بضرورات الحياة، غير محسة بمعنى الاجتماع، ولا بما يستلزمه العيش المشترك. فإذا مر بنا هذا الإحساس كان أقصى ما يستثيره عندنا رغبات وآمال تطير مع الهواء، ولا تجد لها مستقرًّا، ثم لا تبقى لها بعد ذلك باقية.
والحقيقة أن طَرق باب الإصلاح يستلزم قبل كل شيء الإحاطة بحال الأمة، والأمة لا تتكون من اللحظة الحاضرة، بل إن للماضي في شركة حياتنا قسمًا أكبر مما للحاضر. الماضي هو حياتنا كلها، هو الأب الذي أنشأ اللحظة الحاضرة، وسلطان أبوته سلطان فعَّال قاسٍ شديد المحال. وإنما يكون الإصلاح بالاستعانة بما في هذا الماضي من حسنات، ومساعدة هذه الحسنات لتسري إلى المستقبل وتنمو فيه، وبمحاربة ما فيه من مفاسد محاربة استئصال وإبادة … أما مجرد إرسال الرغبات تلو الرغبات، والتعلق بحبال الوهم، فحلم ينقضي مع صاحبه ولا يترك أثرًا بعده. والتألم على فوات أمل لم يتبعه عمل تألم الطفل على ما خيل له في حلمه أنه حصَّله، فلما استيقظ لم يفد شيئًا. وحاشا أمة تريد البقاء أن تتعلق بوهم هذا مآله. وإنما عليها أن تعمل للوقوف على ماضيها لتستطيع إصلاح مستقبلها.
وربما كان أحق الناس بالتغلغل في خبايا الزمن واستطلاع حقائق التاريخ جماعةُ الأدباء والعلماء، ولكن والحال أن أدباءنا ناسون هذا الواجب تائهون في خيالهم وشعرهم وعلماءنا واقفون عند ما خطت أقلام السلف وما ينقل إليهم من أوروبا، فليس من سبيل إلا أن يتولى ما أهملوا قومٌ قد تساعدهم إرادتهم على التقدم بما يستطيعون من فائدة لسواهم. ولا يكلَّف إنسان في الحياة إلا وسعه.
لهذا رأيت أن أبحث من جوانب حياة قاسم أمين حياته ككاتب ومفكر اجتماعي بحثًا تحليليًّا أُظهر فيه صلة رجل قام بحركة فكرية كبيرة في مصر بمجموع حياة الأمة، ومقدار تأثره بهذا المجموع وتأثيره فيه، وأبين الأصول التي يمكن أن ترجع إليها الأفكار التي قام بها قاسم أمين، والتي كانت من الظواهر الاجتماعية المحسوسة التي ظهرت في العصر الأخير في مصر.