قهر الإيمان
قال لي الشاعر الأمريكي الكبير «لويل» الذي يزور جمهوريتنا هذه الأيام: إنه أرسل خطابًا للشاعر السوفييتي الشاب «إيفتشنكو» يدعوه فيه إلى زيارةٍ ثانية للولايات المتحدة. ولا أعتقد أن هذه الزيارة ستتم؛ فالحركة الثقافية في الاتحاد السوفييتي لا تتبع المقاييس والاختيارات الغربية، وهم يَعجَبون هناك للشهرة التي هبطت على إيفتشنكو في حين أنه ليس أحسن الشباب الذين يقولون الشعر هناك، ولكن دور الصحف والنشر في العالم الغربي لها طريقتها الجَهَنَّميَّة في خلق الشهرة وإذاعتها، وقد الْتَقَطَت هذه الدُّور إيفتشنكو وسَلَّطَت عليه الأضواء، وكأنما لِتَغيظ الاتحاد السوفييتي، تمامًا مثلما فَعلَت مع باسترناك؛ فلِلأسف لم أقرأ «دكتور جيفاجو» إلا منذ ستة أشهر؛ ذلك أني أكره قراءة أي عملٍ تُثار حوله الزوابع، خاصةً في نفس الوقت الذي تُثار فيه الزوابع؛ لأن للزوابع دائمًا تأثيرًا صناعيًّا كبيرًا على القارئ. مع اعترافي بأن في الرواية مواقفَ شعريةً بالغة العمق والروعة، إلا أن نفسي اشمأزَّت من موقف بطَل الرواية وعطفِ الكاتبِ الشديدِ على هذا الموقف؛ موقف المُحتقِر للثورة وللشعب. الناظر للقيم الجديدة والتغييرات التي تطرأ على المجتمع بعقليةِ مُثقَّفٍ صغير. والمُثقَّف الصغير أبشعُ من البورجوازي الصغير في فهمه الضيق للحياة وللأحياء. ورغم هذا فإن الرواية كان لا بد أن تُنشَر والموقف الذي اتخذته دور النشر في الاتحاد السوفييتي منها موقفٌ خاطئ لا يقل ضيقًا عن موقف بطلِ الرواية نفسه. إن الثورة الحقيقة يجب أن تتسع حتى للأصوات المُعارِضة ولو من أجل أن تتبيَّن صحة موقفها، أمَّا المُصادَرَة والحَجْر فهي مواقف الخائفِين، والخائفون لا يمكن أن يكونوا ثُوارًا؛ فالثورة، أي ثورة، ومهما كان لونها، أو عقيدتها في حاجة إلى شجاعةٍ كبيرة، وليس لمواجهة ما يُؤيِّدها من الأفكار فقط وإنما لمواجهة ما يعارضها، بل بالذات لمواجهة ما يعارضها، كثيرٌ من حملة الأفكار المُعارِضة ليسوا عملاء ولكنهم مؤمنون، والمؤمنون لا يواجههم إلا مؤمنون؛ لأن الإيمان لا يقهره إلا إيمانٌ أقوى وأشمل.