الرجل الذي حسدتُه

وبمناسبة الاتحاد السوفييتي لا تزال صورة ضَيعة تولستوي وبيته اللذَين زرناهما في القرية المُسمَّاة «بالمروج البيضاء» عالقةً بذهني. الضيعة التي كان يأتيها تولستوي من موسكو راكبًا العربة لمسافة مائتَي كيلو متر، أو أحيانًا الدرَّاجة، ومن يدري ربما سائرًا على قدمَيه أحيانًا أخرى. الاصطبلات، و«سَراية» تولستوي والغرفة التي كتب فيها «أنَّا كارنينا» والأُخرى التي بدأ فيها الملحمة الكبرى «الحرب والسلام»، ومكتبة تولستوي التي تضم كتبًا عربيةً وهنديةً وفارسية وبحوثًا كثيرة عن الإسلام، بل لاحظتُ فيها وجود كتابٍ ضخم عن ملح الطعام. و«رُوبَه» الذي يُشبِه القفطان، والعصا والكرسي والحجرة التي كان يستضيف فيها وينام تشيكوف وجوركي وطبيبه الخاص وسكرتيره في أواخر أيام حياته؛ العجوز الذي بلغ الثمانين ولا يزال حيًّا، والرجل ذا الذقن السوداء المُتعصِّب إلى حد الجنون لتولستوي والذي يعمل كدليلٍ لبيته وحديقته، والذي رفض بإباءٍ وشممٍ أن تقوم إيلينا استفانوفا بترجمة كلامه إلى العربية لنا فتولَّى الحديث بإنجليزيةٍ ألمانيةٍ روسية كان كثيرًا ما يرتج عليه أثناءها فتُسارع لينا بإنقاذه. أمَّا أروعُ ما شاهدتُه في «أبعادية» تولستوي فهو قبرُ تولستوي؛ ذلك أنهم دفنوه حسب وصيَّته. ولقد أوصى ذلك الرجل الفنان، القديس المُتواضِع إلى حد الصلف والغرور، الجاد إلى حد الهزل، الواقعي إلى حد الخيال، الحالم إلى حد اليقظة، الذي عشق الأرض وأحبها إلى درجة أن يرفض احتِكارَها لنفسه واعتبرَها كالسعادة جديرةً بالتوزيع على كل الناس؛ أوصى أن يُدفن في الأرض كما ندفن أمواتنا في مصر وما أَروعَها من لحظةٍ تلك التي وقَفنا فيها لثوانٍ قليلة خاشعِين أمام قبر تولستوي وهو عبارةٌ عن مُتنزهٍ صغير لا يَتعدَّى بضعة أمتارٍ محاطٍ بسورٍ قصير جدًّا من الزهور ويملؤه العشب الأخضر، وفي وسط العُشب، يبرز القبر متميزًا ببضعة سنتيمترات في الارتفاع، بينما الغابة الكبيرة بأشجار الحُور تَحتضِنه، والطيور كالموسيقى غير المنظورة تُغرِّد، وخضرة الورق وخضرة العشب وشعاعات ضوء القمر الأصفر والسكون التام، ولا شيء غير هذا. إني لم أحسُد في حياتي رجلًا على رَقدَته مثلما حسَدتُ تولستوي، وما تمنيتُ في حياتي أن أمتلك قطعةَ أرضٍ خاصةً لي إلا أن أمتلك الأمتارَ المُخضَرةَ بالعشب التي لا يتميز فيها الإنسان إلا ببضعة سنتيمتراتٍ قليلة.

أَطرفُ شيء أن المرشد المُتحمِّس أخبرنا أن الألمان في أثناء احتلالهم لتلك البقعة من روسيا، قاموا بعدما نهبوا القصر بدفن بعض العساكر الألمان مع تولستوي في هذه الأمتار القليلة، وجاء الفلَّاحون الروس يحتجون على هذا العمل، فقال لهم القائد الألماني: يكفي تُولستيَّكم فخرًا أنه أصبح مدفونًا جنبًا إلى جنبٍ مع عَساكرَ ألمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤