عبد الوهاب ضحك علينا وعلى وزارة الثقافة
منذ عامٍ أو أكثر، وحين قامت الضجة حول الأُوبرِيت وتعالت الصيحات تُنادي بوجوب أن تتجه موسيقانا إليها وصرَّح عبد الوهاب أكثر من مرة بأنه بسبيله إلى إعداد أوبريت، وأكد تصريحاته بطريقةٍ جَعلَت وزارة الثقافة تُبادِر وتتفق معه، كَتبتُ أقول إن عبد الوهاب لن يُلحِّن مهر العروسة ولا غيرها، وإن كل تصريحاته واتفاقاته ما هي إلا حركةُ ذكاء بارعةٌ هدفها «سرقة» هذه المُظاهرة المُنادِية بالأوبريت، تمامًا كما كان بعضنا، ونحن طلبةٌ في الجامعة يصنع، حينما يلمح مُظاهرةً مُعاديةً مُقبلةً من بعيد، فيطلب من زملائه أن يرفعوه على أكتافهم، لينضَم إلى المُظاهرة ويبدأ يهتف بنفس شعاراتها حتى يُطمئِن القائمِين عليها، ولكنه شيئًا فشيئًا يبدأ يَحرِف المُظاهَرة وشعاراتها إلى ما يريد وينجح في النهاية و«يسرق» المُظاهرة. عبد الوهاب أيضًا، كلما كان يُفاجَأ بالمُظاهَرات المطالبة بالأوبريت لم يكن أبدًا يقف ضدها، بالعكس كان يَتبنَّاها، ويبدأ في عقد سلسلةٍ من الاجتماعات، ويَنشُر في الجرائد تصريحاتٍ وأحاديثَ وأخبارًا تؤكد أنه فعلًا يُلحِّن، وأنه في طريقه إلى الانتهاء منها، ويظل مُتحمسًا، طالما الحماس للمُظاهرة قائمًا، ويظل يردد الأحاديث والتصريحات حتى يهبط الحماس وينسى الناس، فينسى هو الآخر، وتنتهي المُظاهرة النهاية التي يريدها لها عبد الوهاب.
تذكَّرتُ كل هذا وأنا أشاهد أوبريت «يوم القيامة»، إنها أوبريت جيدةٌ وألحانها لا بأس بها، ولكنها أبدًا ليست ما نريد. ولقد قدَّمَتها وزارة الثقافة مضطرة، وأنفَقَت عليها مضطرةً بعد أن خذلها عبد الوهاب ولم يُحقِّق وعده الذي كان قد قطعه على نفسه.
وعبد الوهاب قطع هذا الوعد وهو يعرف تمامًا أنه لو يوفيه وأنه ليس ملحن أوبريت، وأن حياته وثقافته الموسيقية وقالب الغناء العاطفي المُفرَد الذي تزعمه وحدد إقامته داخله لا يمكن أبدًا أن ينفرج بين يومٍ وليلةٍ عن موسيقارٍ يُلحِّن الأوبريت. وهو يتزعم المظاهرات، ويُجزل الوعود، ويزاول حركات الذكاء هذه، فقط ليُضيع الوقت ويُشتِّت الحماس ويصرف الأنظار عن الأوبريت، كنوع من أنواع الدفاع عن النفس الفنية. لقد تسلم عبد الوهاب حركتنا الموسيقية من سيد درويش وهي حافلةٌ بكل ألوان التعبير الموسيقي، ولكن، ربما لأنه أساسًا مغني ومطرب، وربما لحلاوة صوته وإعجازه، فقد آثر الأغنية العاطفية على غيرِها وأخذ يعمل بروعةٍ لتطويرها على حساب كل الألوان الأخرى، حتى نجح في هذا إلى أبعد حدود النجاح ويؤسفني أن أضيف إلى أضر حدود النجاح أيضًا؛ فقد سادت الأغنية العاطفية على ما عداها، وماتت الأوبريت ومُؤلِّفوها ومُلحِّنوها. وازدهار لون على حساب غيره من الألوان يُؤدِّي إلى انحراف، ونحن حقيقة في عصر الانحراف المريض نحو الأغنية العاطفية، بل نحو نوعٍ واحد من الأغاني العاطفية؛ ذلك النوع الذي يُخاطِب كل ما فينا من ضعفٍ ومراهقةٍ وإحساسٍ بالوحدة ليُثير فينا الضعف والمراهقة والإحساس بالوحدة. ولقد ظل هذا اللون سائدًا إلى أن بدأ يدور في حلقةٍ مُفرَغة، ويُلجئ اصحابه إلى الاقتباس والتقليد وافتعال التجديد؛ ذلك لأن الطريق الطبيعي لتطوُّر الأغنية وتنفُّسها هو المسرح الغنائي حيث الأغاني في الأوبرا والأوبريت تخاطبنا كجماعة، ونسمعها كجماعة، وترسم ملامحنا وتُعبِّر عنا كشعب، ومن خلالها فقط نستطيع أن نجد التعبير المُتطوِّر الناضج عن أنفسنا وحياتنا بكل رحابتها واتساعها.
ولكي ندرك خطورة ما آلت إليه أوضاعنا الموسيقية، يكفي أن نستمعً إلى واحدٍ أو واحدةٍ أو أكثر من تلاميذ هذه المدرسة العاطفية في الغناء، لنرى إلى أي حدٍّ مُخجلٍ يخنث هذا من صوته، وتزيد تلك من حرارة تأوُّهاتها، لكي يستطيع وتستطيع أن تُعبِّر عن الحب، أيُّ حب هذا؟ إنه قطعًا ليس حبنا؛ فالرجال عندنا لا يُحبون بهذه الطريقة المائعة المُخنَّثة، ولا المُحِبَّات عندنا يتأوَّهنَ مثل هذه التأوُّهات ومع هذا فنحن نُضطَر مُكرَهِين إلى الاستماع؛ فالموسيقى غذاء، ونحن جوعى، جوعى إلى ألحانٍ قوية تُعبِّر عن قوتنا، وموسيقى؛ موسيقانا المُحرَّمة علينا، النابعة منا، المُعبِّرة عنا، الأصلية العريقة بمثل أصالتنا وعراقتنا، نُحاول عبثًا أن نَعثُر عليها في هذه الألحان العربية المُتهافِتة، وخلال الأصوات التي تختبئ وراء التخنُّث والميكروفونات.
ونحن في حاجةٍ عظمى إلى المسرح الغنائي، إلى الأوبريت. وأقولها صريحة لهؤلاء الذين ينتظرون في حسن نيةٍ وطيبةٍ أن يفرغ عبد الوهاب من تلحين أوبريتته الأولى، أقول لهم عبثًا ما تفعلون ولا تطلبوا من عبد الوهاب المستحيل؛ فهو أولًا ليست مُلحِّن أوبرا أو جماعات، وهو ثانيًا لا يمكن أن يُنحِّي نفسه بيده عن العرش الجالس عليه. لنَدَعْه في لونه العاطفي الذي امتاز فيه وبرع، ولنعهد بالتلحين إذا كنا جادِّين لموسيقار، إذا فرضنا جدلًا أنه ليس له شهرة عبد الوهاب ونبوغه؛ فيكفي أنه سيُوجِد اللون، وسيبدأ ومن خلال البداية نستطيع أن ننهض ونعرف أخطاءنا ونسير؛ إذ لا بد أن نسير ولا يمكن أبدًا أن نقف جميعًا، ثلاثين مليونًا وأكثر من الرجال والنساء والأطفال والثوار، نُردِّد التأوُّهات.