ليلة وراء الكاميرا
خلال الساعات التي قضيتُها أتابع ما يدور خلال الكاميرا، أُتيح لي أن أقع على حقيقة المجهود الشاق الذي يتكبده العاملون في الحقل السينمائي. في أول الليل قال لي المصور عبده نصر إن الدقيقة من دقائق عرض الفيلم قد تستغرق ثماني ساعات وأكثر من المجهود والبروفات والاستعداد. وحسبتُ أنه يبالغ، ولكن اتضح لي أنه يتواضع، فقد استَغرقَت الدقيقة ليلتها أكثر من عشر ساعات، اللقطة التي حَضرتُها لن تستغرق أكثر من ثوانٍ، ومع هذا، ومن أجلها، كان لا بد من تصريح من وزارة الأوقاف، وتأليف لجنةٍ من ثلاثة مُوظَّفِين، واستعداداتٍ استَغرقَت يومًا بأكمله قبل التصوير، ويوم التصوير بدأ العمل في الثالثة بعد الظهر وجاء عمال الكهرباء والإضاءة وظلُّوا في تركيباتٍ وتوصيلات إلى الساعة السادسة.
ومن السادسة إلى التاسعة كانت مرحلة التجارب، ومن التاسعة بدأت التجارب الحية على المُمثِّلِين، كان على فاتن حمامة ورشدي أباظة (وأبو دومة وزوجته وابنه) أن يقطعوا عشرة أمتار بعدها يدقُّون الباب ويدخلون، وأكثر من عشرين مرةً قطعوا المسافة، من اليمين مرةً ومن اليسار مرةً وبالكاميرا منحرفةً وبها معتدلة، وكل مرةٍ يرتفع صوت صلاح أبو سيف «ستوب» ثم يُلوِّح بيده قائلًا: مرة ثانية، ويعود الموكب يتجمَّع ليتحرك من جديد، بينما أعضاء اللجنة يقولون: يا مسهِّل يا رب. والبرد قد استبد بكتف أحدهم فأوقفها، بردٌ يتزايد في ليلةِ شتاء، لولا الأضواء لتَجمَّد ظلامها ثلجًا أسود، ومع هذا، فكان ذلك المكان النائي من شمال القاهرة قد ازدحم فجأةً بأُناسٍ لا ندري كيف جاءوا في مثل تلك الساعة إلى ذلك المكان ولا من أين جاءوا، عيونهم تبرُق في ضوء الكاشفات وتُتابع ما يدور بشغف لا يقل عن شغفهم بمتابعة فيلم، مع أن المشهد واحد، واللقطة واحدة، وكذلك الدقة، دقة على مدفن الخديوي توفيق، الرجل الذي لا يذكر له التاريخ إلا عملًا واحدًا لا يُحسَد عليه أنه سهل للإنجليز مهمة احتلالنا، مئات الرجال والنساء والأطفال واقفون ينظرون خلال أسوار المدفن، ويُتابِعون فاتن ورشدي أباظة، وفراشاتُ القاهرة وجرادُها وكأنما انتَهزَت الفرصة وعَقدَت مؤتمرًا عامًّا في نفس البقعة واتخذت قرارًا واحدًا؛ مهاجمة فاتن حمامة، وفاتن تستغيث برشدي، ورشدي مشغولٌ بترديد الجملة التي عليه أن يقولها، يُردِّدها كل بروفة، وخلال الخمسين بروفة: انت تعرفه يا عم إسماعين؟ كالتلميذ الذي قصَّر في أداء واجبه، يُردِّدها بلسانه وعَينُه على المصور عبده نصر الممتطي عربة الكاميرا التي تسير كالقطار على قضبان، والتي يروح بها ويغدو، مقتربًا من المشهد مبتعدًا عنه، مُسددًا الكاميرا إلى الهدف، ثائرًا حين تجيء «الشوت» مثل طلعات صالح سليم كلما اقترب من الجون «آوت».
أتعرفون من كان أَسعدَ الناس في تلك الليلة الحافلة الحاشدة؟ كان خفير المنطقة النظامي. لقد ظلَلتُ أتتبعه وهو يَذرَع المكان جيئةً وذهابًا بمِعطَفه الأصفر الواسع وحذائه الضخم الفاغر فاه وبندقيَّته المُعلَّقة في كتفه المُسدَّدة إلى الفضاء الأثيري وكأنما تبغي إصابة القمر الروسي في مداره، ظلَلتُ أَتتبَّع سيره المضطرب بالفرحة وكأنه صاحب هذا المولد كُلِّه، باعتباره أنه يدور في دركه وهو المسئول عن المحافظة عليه وعلى الأمن فيه، فرحةٍ ممزوجة بدهشة وكأنما هو غيرُ مُصدِّق أنه بعد آلاف الليالي من الوَحدة قد جاءت عليه ليلةٌ احتَشدَ له فيها نجوم البلد وأصبحوا من رعاياه، وأنه مَحطُّ الأسماع والأنظار، تُرى أيةُ مفاجأة كان سيتلقَّاها لو عرف أن أحدًا غيري لم يُحِسَّ بوجوده، ولا حتى استرعَت بندقيتُه المُغمَدة في الفضاء انتباهَه.