البلد، بلدنا كبر
البلد، بلدنا، كبر وامتد، وحتى مشاكله أصبَحَت مشاكل الدول الكبرى.
اليوم وأنا أتجول في شوارع القاهرة لم أستطع أن أتمالك نفسي، البلد كبر، وقوي، واحتل مكانه تحت الشمس.
البذور نمت، وتَرعرعَت، وأصبَحَت أزهارًا تخطف ألوانها الأبصار، ألوان الأعلام المنثورة في الشوارع، أعلام دول عدم الانحياز، ما أَكثرَها من أعلام وألوان وأشكال.
البلد كبر، في عالمٍ كبير، وحفل بدولٍ مستقلة، أخيرًا وجدتُ الكِيان، وتبَلوَر الكِيان بين علَمٍ ها هو الآن يأخذ مكانه بين غيره من الأعلام في مِهرَجان القاهرة الحافل، في اجتماعاتٍ لم يشهد لها العالم مثيلًا، في لقاءٍ تقف له أوروبا وأمريكا فاغرةً الفاه.
كانت حُجج الدول الاستعمارية في تأجيل منح الاستقلال أن الشعوب «البدائية» لن تستطيع حكم نفسها بنفسها، مثلما قالوا ذات يوم إن مصر لن تستطيع إدارة القناة، فإذا بهذه الشعوب لا تدبر أمرها داخليًّا فقط، وإنما وعلى المستوى العالمي تبدأ في تنظيم الأمور فوق الكرة الأرضية نفسها، وتقيم أشكالًا من التعاون الدولي والشعبي لم تدر بخَلَد الغرب المُستعمِر وحَلمَت بها أوروبا وأمريكا. كانوا يظنون أنهم إن منحوا هذه الدول استقلالها وجلَوا عنها؛ فآجلًا أو عاجلًا وبحكم الأمر الواقع ستجد هذه الدول نفسها مضطرة، في عالمٍ ضخم تحكمه القوى الضخمة والإمكانيات الضخمة، إلى اللجوء إلى مُستعمرِيها السابقِين، فإذا من بين هذه الدول نَفسِها تَتبُع نظرية عدم الانحياز، وتبدأ هذه الدول نفسُها في الكشف عن طاقاتها الخلَّاقة في التفكير والتنظيم. إذا بهذه الدول المُستضعَفة نفسِها تخلُق أشكالًا للتعاوُن الدولي أقوى بكثيرٍ من كل أشكال التنظيمات الاستعمارية الكبرى، ومؤتمرات بلجراد والقاهرة أقوى بكثير من مؤتمرات مونتريه وعصبة الأمم، والعلاقاتُ التي تنشأ بين دولها أقوى وأشدُّ فاعليةً وإنسانيةً من علاقاتٍ كانت تقوم بين دُول الاستعمار أساسُها الاتفاق على الشر والغَدْر وتقسيم الغنائم. وإذا بالعالم الذي كان يبدو ضيقًا جدًّا منذ بضع سنوات بحيث لا تجد فيه أي دولة ظَفِرَت بالاستقلال متنفسًا أو مكانًا للوجود، إذا به اليوم، إذا بعدم الانحياز يجعل منه اليوم عالمًا أكثرَ رَحابةً واتساعًا وأعظمَ إنسانية، عالمًا تستطيع أي دولةٍ صُغرى فيه أن تبني علاقتها بأي دولةٍ كبرى على أساس الاختيار والندِّية والاحترام الكامل المتبادل.
وقد تكون هناك عشرات العوامل التي أدَّت إلى خلق هذا الاتجاه الذي ساهم في إنقاذ السلام العالمي من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى أَوجَد للدول النامية مخرجًا لأزمة وجودها سيتحول حتمًا إلى شكلٍ جديدٍ رائع من أشكال التعاوُن والتكتُّف الدوليَّين. قد تكون هناك عشرات العوامل، ولكن أهمها بلا أدنى شكٍّ هو نجاح ثورة ٢٣ يوليو في فرض هذا الهدف على مُستعمرِيها وعلى العالم أجمع، نجاحًا لم يأتِ إلا بعد كفاحٍ رهيبٍ مرير وحربٍ ومقاومةٍ وعدوان. نجاحًا وإن كان أَحرزَ لمصر استقلالها التامَّ الكامل وحريتها إلا أنه في الوقت نفسِه أَحرزَ لكل الدول النامية والشعوب المغلوبة على أمرها طريقًا مُمهَّدًا، ومثلًا، ونموذجًا يُحتذَى بحيث إن الثورة التي خطَّت لمصر وللعرب تاريخهم الحديث غيَّرَت في ميزان القوى العالمية أيضًا، وغيَّرت من تاريخ العالم، وخطَّت لغالبية دوله طريقها المُشرِق الجديد.
لقد شهِدنا في بَحرِ الشهور القليلة الماضية اجتماعاتٍ خطيرةً متوالية تُعقَد في القاهرة والإسكندرية؛ اجتماع قمةٍ أفريقي واجتماع قمةٍ عربي واجتماع قمةٍ للدول غير المنحازة، وليس صدفةً أن تحدُث هذه الاجتماعاتُ كلُّها في مصر. وقد تتفاوت قدرتنا كمواطنِين في إدراك مغزى هذه الأحداث الكبرى، بل قد لا يرى فيها البعض أي صلةٍ أو تأثيرٍ على حياتنا اليومية ومشاكلنا هنا؛ ذلك أن هذا البعض لا يرى إلا الصورة الداخلية لثورتنا وقيادتنا، ولكنَّ ثورتَنا لها صورتُها الخارجية ولها دورها العالمي الذي تُحتِّم عليها طبيعتُها أن تلعبه.
لقد قامت ثورة ٢٣ يوليو لتكافح الظلم السياسي والقهر الاجتماعي في مصر، وكان أن تكتفي بانتصارها داخليًّا على قوى الشر والطغيان عجزًا أيَّ عجز؛ فما دام الشر والطغيان مَوجودَين في العالم وعلى مقربةٍ منها فباستطاعته أن يعود للانقضاضِ علينا في أي وقت «وقد حدث فعلًا وعاد» ولهذا فإن نجاح ثورتنا الحقيقي لا يأتي إلا بالتعاوُن والتكاتُف مع كل ثورات العالم وأحراره للقضاء على الشر والطغيان في العالمِ أجمع، وهو بالضبط ما تفعله ثورتنا اليوم. لا يكفي للانتصار على اللص أن تخرجه من بيتك إلى الشارع وإنما عليك أن تتعقبه إلى باب السجن، ونحن إن لم نتَعقَّب الاستعمار والصهيونية إلى باب سجنهما الأبدي فلن يحل السلام، ولن نُحِسَّ بالأمن الكامل والاستعمارُ غادٍ رائحٌ في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا نفسها. إننا بهذه المؤتمرات والاجتماعات نَتتبَّعه ونُضيِّق عليه الخِناق ونُحقِّق ثورة ٢٣ يوليو الكاملة، وذلك بالعمل لانتصارها أفريقيًّا وآسيويًّا وعربيًّا وغير منحاز وعالميًّا؛ فهي ثورةٌ بَدأَت بانتصارنا كشعب، ولن تتم إلا بانتصارِ كل الشعوب وتعاوُننا وتكاتُفنا مع كل هذه الشعوب لكي تنتصر. والانتصاراتُ ولله الحمد تتوالى، وبلدنا يَكبرُ بهذه الانتصارات، في خضم المعركة التي يخوضها ويكبر ويقوى وتسير في شوارعه مثلما تسير اليوم، فتجدُها قد ازدانت برايات النصر، وكلُّ علمٍ لدولةٍ غيرِ مُنحازةٍ رايةُ انتصار، والرايات كالأزهار كثيرةٌ مُتعدِّدة الألوان بَريقُها يخطَف الأبصار؛ فهي أزهار البذور التي غرستها ثورتنا مع غيرها في أرض العالم الجَدْبة، والتي تتفتح اليوم وتُشرِق وتُؤكِّد أننا غدًا سنجني الثمار.