الدعاية العملية
كنت قد كَتبتُ عن الموقف الذي يجب أن نَتخِذَه تجاه الشخصيات التي تُعادِينا أو تشركها الدعاية الصهيونية في نشاطها الآثم. وقد طالبتُ بألَّا نكتفي بالموقف السلبي من هذه الشخصيات، لا نكتفي بمخاصمتها والدعوة إلى «رميها في الجحيم والمحرقة» كما يرى الكاتب الذي تَعرَّض لي على صفحات الجمهورية، ففي رأيي أن هذه الدعاوى الجوفاء كلامٌ نظريٌّ لا جدوى منه، وضربتُ مثلًا بكاسترو الذي كان باستطاعته، ومن حقه، أن يرمي بالصحفيِّين الأمريكيين إلى جَهنَّم والمحرقة حين ذهبوا إليه في كوبا، ولكنه بدلًا من هذا، قضى معهم أربعًا وعشرين ساعةً متواصلةً يُحاوِل إقناعهم بعدالة قضية كوبا وموقفها. ودافعي للمُطالَبة بهذا أن الذي يستفيد من موقفنا السلبي، ولا أقول العَدائي، هو إسرائيل؛ فهي لا تريد منا أكثر من هذا الموقف لتظل تكسب الأصدقاء والعاطفِين. طالبتُ بدلًا من مناداة هذا الكاتب أو ذاك بوجوبِ منعِ بعض الشخصيات من دخول بلادنا باعتبار أنها قامت بأعمالٍ تخدم وجهة النظر الصهيونية، طالبتُ بالعكس، بأن نُصِرَّ على دعوتها إلى بلادنا، ونَنتهزَ فرصة وجودها بيننا ونُناقشها ونشرح لها وجهة نظرنا، ونجعلها تزوم خيام اللاجئِين ونكشف لها كل الحقائق التي تُخفِيها الدعاية الصهيونية وتُزوِّرها طالبتُ بدلًا من المخاصمة والمنع أن نُناقش ونُقنع، وبدلًا من أن يُطالِب كاتبٌ ما بمخاصمة هؤلاء الناس وحرقهم، أن يشترك في دعوتهم ويُناقشهم، بدلًا من الكلمات المُتحمِّسة الجوفاء التي يقولها لمواطنِينا بالعربية — وكأنهم ناقصو إيمانٍ وحماس — يستعمل كل حُججه ومنطقه وحماسه لإقناع تلك الشخصيات وكَسبِها إلى جانب قضيتنا. إن الكاتب الذي رَدَّ عليَّ يعترف بأن الدعاية الإسرائيلية بَدأَت في الآونة الأخيرة تتبع طرقًا بالغة الذكاء لكسب الأنصار والأصدقاء، هذه الدعاية التي تُدافع عن قضيةٍ مزعومة خاسرة، فلماذا يُريد لنا سيادته ونحن ندافع عن قضية عدلٍ وحق أن نتبع أساليب لا أَقولُ في منتهى الغباء، ولكنها أساليبُ تخدم إسرائيل مباشرةً وتزيد من عدد أصدقائها والعاطفِين عليها؟ إذ تصوروا أنه في الوقت الذي يقول الكاتب إن إسرائيل تضع «فيتامينات» الدعاية في البرتقالة البريئة؛ أي تبذُل أقصى المستحيل لشرحِ وجهة نظرها. يريد منا الكاتب أن: نرمي إلى المحرقة بالفنانِين والمُمثلِين الذين تَخدَعهم الدعاية الصهيونية. أتطمع إسرائيل في أكثرَ من هذا لتقتبسه وتنشُره على العالمِ أَجمعَ لتَستشهِد به على نظريتها الكاذبة القائلة إننا ننوي أن نفعل باليهود نفس ما فعله هتلر ونَرميَهم إلى الأفران والمحارق؟ ثم كيف نربط قضيةً مقدسة، كقضية العرب وفلسطين، بقضيةٍ دنسةٍ مجرمة كقضايا النازي وهتلر ومعسكرات اعتقاله وأفرانه وغازاته؟ كيف نسمح لأنفسنا أو لأحدٍ منا أن يُظهِرنا أمام العالم بمظهر المُدافعِين عن إجرام هتلر وعصابة الحزب النازي فقط لأن هتلر هذا كان يُعادي اليهود؟ نحن كما قلنا مرارًا لا نُعادي جنسًا بعينه، نحن نعادي الصهيونية وإسرائيل ونعاديهما لأسبابٍ محددةٍ واضحة، فكيف نربط أنفسنا بقضيةٍ عنصرية ونتورط في الدفاع عن مجرمي حربٍ في حين أن أحدًا لم يضُر القضية العربية بمثل ما فعل هتلر وعصابته؟ فهو بجرائمه أعطاهم الوسيلة لتمثيل دَورِ الشهداء والمُضطهَدِين. إننا في هذه الحالة أيضًا لا نفعل إلا ما تريده منا الصهيونية وإسرائيل بالضبط؛ فهم يلعبون بورقة الاضطهاد، ونحن — أقصد آراء السيد الكاتب — تقدم لهم الدليل، وما هو بدليل؛ فهو ليس إلا تفسيرَ فردٍ واحدٍ مخطئ للقضية العربية الفلسطينية.
أجل، إني مع الكاتب في أن القضية هي مصير شعبٍ بأَسْره هو الشعب العربي كله وليس الشعب العربي في فلسطين وحده، ولكني لست معه أبدًا في أن الحل هو أن نربط أنفسنا بهتلر وإيخمان ونُطالِب بحرق اليهود والمُضلَّلِين بالدعاية الصهيونية إذ نحن بذلك لا نحرق إلا عدالة قضيتنا، ونحن في هذه الحالة نُؤجِّل رد حقوقنا المغتصبة.
هذا الموقف السلبي، هذه الأحكام التي نكتفي بإطلاقها والمُطالَبات بالحرق التي لا نُنفِّذها، هذه كلها لا تقدمنا شبرًا واحدًا من الحل. إننا نحن الذين سنحل بأيدينا قضيتنا، هذا صحيح، ولكنَّا لِنفعلَ هذا يجب أن نفعله بمُساعدةِ وتعضيدِ وفهمِ الرأي العام لنا، والرأي العام العالمي لا يفهم بالعقوبات والتهديد بالذَّبح وبالحَرق، إنه يفهم بالإقناع ويبذل أقصى الجهود لكسب الأصدقاء والمُؤيِّدِين، وحتى لكسب الذين تَورَّطوا في عداوتنا.