أيام في التليفزيون
أُتيحَ لي في أثناء الفترة التي قَضيتُها أتردَّد على استوديوهات التليفزيون لإعداد الأفلام التي أَخذنَاها لثورة الجزائر وجيش تحريرها الوطني، أن أُراقِب عن قربٍ تجربةً جديدة على حياتنا تمامًا، وعميقةً الدلالة في الوقت نفسه.
التجربة هي الخطوة الجريئة التي أقدم عليها الدكتور عبد القادر حاتم حين عهِد لأَوَّل مرة إلى مجموعةٍ ضخمة من الشباب بخلق وإنشاء وتسيير وإدارة أكبر وأحدث مؤسَّسة من نوعها في شرقنا الأوسط. شباب يزدحم بهم الأسانسير صاعدِين هابطِين مُنتشِرِين في أرجاء المبنى الهائل، شبان وبنات في العشرين وأقل وأكثر يُديرون الاستوديوهات ويُخرجون ويُنفِّذون ويكتبون الاسكريبتات ويبدو الصديق سعد لبيب رغم شبابه الواضح عجوزًا بينهم أو كالعجوز. مئاتٌ منهم جديدة، كالعُملة الخارجة لِتوِّها من ماكينة السك، طلعت وفتحي إبراهيم وسلوى حجازي وحمدي قنديل وأماني ناشد وهند أبو السعود ويحيى التكلي وميلاد بسادة وأحمد لطفي وعادل صادق وممدوح زاهر وزينب حياتي وهندام وكوثر هايل وأسماء العاصي وأم كلثوم وسهام الديب وأمال مكاوي وعبد الرحمن هندام وفتحية وبهيجة وفايزة، ومئاتٌ مجرد رؤية وجوهها الغضة وسماع أصواتها الحادة المليئة بالحماس يُزيح عن النفس كآبتها ويُفرح القلب.
وقد كنتُ أَحسبُ أن الجيل من المذيعِين الذين نراهم على الشاشة هم الزهور الصغيرة لأشجارٍ ضخمة متقدمة تعمل لا بُد وراء الستار، فإذا بالكل زهورٌ في عمر الزهور، وتفتُّح الزهور، وإذا بعم رجب المُصوِّر يبدو لي رغم أعوامه الخمسين وكأنه في عمر نوح، حتى الفنيون في الصوت والضوء والمونتاج والكهرباء كلهم جددٌ حديثون وكأنهم لا يزالون طلبةً في الكليات.
وكنت أظن أيضًا أن الحداثة في السن لا بُد يُقابِلها نقص في الخبرة والكفاءة، ولكن الأيام التي قضيتُها في التليفزيون أثبَتَت لي العكس؛ فهؤلاء الشبَّان والشابَّات يعرفون عملهم حق المعرفة ويبذلون أضعافًا مضاعفة من الجهد كي يُتقنوا أداءه. وأسوأ ما في التليفزيون من نقصٍ هو في تمثيلياته وأسوأ ما في التمثيليات هي نصوصها وتأليفها. والسوء هنا يأتي من الخارج إذ يقوم به المُؤلِّفون الكبار، في السن طبعًا، من خارج التليفزيون. ولو أتقن كلٌّ منهم كتابة تمثيليةٍ مثلما يكدح أي كاميران أو مُنفِّذ برنامجٍ شابٍّ لارتفع مستوى التمثيليات بلا جدال.
تجربةٌ بصراحةٍ أذهلَتني واستغرقَتني تمامًا وأنا أُلاحِظ بدقة كيف تختلف المعاملة بين أفراد هذا التيم عنها في أي مؤسسةٍ حكوميةٍ قائمة. إنهم يتعاملون بصراحة وبساطة وبراءة ولا يُضيِّعون الوقت في شكلياتٍ تافهة، ويتفاهمون بسرعة ويعملون بإخلاص وكأنما لِلذة العمل وحده، وما سمِعتُ أبدًا كلمةً عن الكادر والعلاوات.
الحقيقة أُحِسُّ بالضيق الشديد، فاللغة في يدي جامدةٌ عجوزٌ بالغة القِدم غيرُ قادرةٍ أبدًا على التعبير عن إحساس، ولا على تجسيد الصور الحية المليئة بالحياة لتلك المجموعة البشرية الجديدة وهي تتحرك باستمرارٍ في انسيابٍ مُتحرِّر نابض، وكأن أفرادها كائنات موديل ٦٢. قِمَم شعبنا النامية وقد أَفرزَتها آخرُ مراحل تطوُّره مزودةً بقدرةٍ غريبة على التفاهُم والتعامُل والسيطرة على آلاتٍ تجتاز هي الأخرى أرقى مراحل التطوُّر. انسجامٌ كامل بين الآلة الجديدة المُتطوِّرة والإنسان الجديد المُتطوِّر. تَطابُقٌ لا يمكنك معه أبدًا أن تتصور العكس فما كان بالاستطاعة خَلقُ مؤسسةٍ إلكترونيةٍ كهذه بغير أن يعمل فيها الجيل الإلكتروني؛ إذ تُرى ماذا كان يحدث لا قدر الله لو تولَّى مُوظَّفو الحكومة الذين تَزخُر بهم دواوينُها تشغيل وإدارة التليفزيون؟
سألت حسن حلمي المراقب العام: ألا يُحدِث من هؤلاء الشبان والفتيات أخطاء؟ أليس لهم عيوب؟
وقال: العيوب موجودةٌ والأخطاء موجودة، ولكنها عيوبٌ وأخطاءٌ من نوعٍ آخر، عيوب المُتحمِّس للعمل حين يُخطئ بحسن نية.
سألتُه: ألا يوجد تنافُس؟ قال: ولكنه تنافُسٌ على الإجادة والإتقان. خطوةٌ جريئة ولكنها أثبتت نجاحًا ساحقًا. كم أتمنى لو فتح التليفزيون أبوابه لجماهير الشعب، وبالذات لهُواة التقليل من شأن الشباب كي يَرَوا بأعيُنِهم المعجزة، المعجزة التي تُحقِّقها مجموعةٌ من الشباب، في عملها، في دقتها، في سرعتها وحِسِّها وحتى في عيوبها وأخطائها. تكون مُظاهرةً مستمرةً ماضية طَوال الأربع والعشرين ساعةً تُثبِت بصمتٍ أبلغ من أي كلامٍ أحقيةَ أجيالنا الجديدة في تولِّي زِمام الأمور في كل مكان.