السندباد منسي
إنه ليس في حاجةٍ لكلمةٍ عابرة، إن مغامراته في حاجةٍ لكتاب. إن اسمه يسبقه الآن عددٌ كبير من الدرجات العلمية وشهادات الدكتوراه، ولكنك لو جلَستَ تسمعه لتوارت مغامراتُ السندباد البحري والبري والجوي أيضًا. لقد كان طالبًا في كلية الآداب بالإسكندرية وعرف أن هناك رحلةً إلى إنجلترا نظَّمَها المعهد البريطاني بتسعةٍ وعشرين جنيهًا لمدة ثلاثة أسابيع، وقبل الامتحان بشهرٍ اشتغل في شركة الغزل كعامل لوزن القطن لِيُدبِّر المبلغ. ولم يستطع فظل يبحث حتى وجد «واسطة» لِقُبطان الباخرة الذي عَهِد إليه بعملٍ على السفينة في مُقابِل أجرة سفره، ووصل إلى هناك. وفي خلال الأسابيع الثلاثة استطاع إتقان الإنجليزية إلى درجة أن قيَّدَته جامعة ليفربول بين طلبة الماجستير، وقبل أن تنتهي المدة كان قد وجد عملًا «كجنايني» عند أحد ثُراةِ مدينة ليفربول، وجنايني بعد الصبح وطالبًا بعد الظهر، ثم كعاملٍ في مصنع السكر الوحيد هناك. استطاع أن يحيا بين العُمَّال الإنجليز ويُصاحبهم ويدرس أدقَّ تفاصيل حياتهم ولغتهم ومشاكلهم، ولكنه فُصل من الجامعة لاكتشاف أنه يعمل، فقابل المدير وأقنعه بأن يُعيده إلى أن ينال الماجستير، ونالها، ونال الدكتوراه ثم انتقل إلى لندن ووجد أن الدكتوراه في الأدب العربي سهلةٌ جدًّا ولا تحتاج إلا لمعلوماتٍ قليلة فأخذها بالمرة، ورشَّح نفسه في اتحاد الجامعة وأصبح السكرتير، وأقام مناظراتٍ عرَّفَته بعددٍ كبير جدًّا من شخصيات المجتمع الإنجليزي، وتحدى مرة ويشارد كروسمان عضو حزب العُمَّال البارز واتهمه بمناصرة إسرائيل على العرب، وصادَقَ إديث سمر سكيل وبربارة كاسل الكاتبة والنائبة العُمَّالية الذائعة الصيت، وهاجم إيدن في وجهه في أثناء العدوان واتهمه بالخيانة علنًا وأمام الطلبة من أعضاء حزب المحافظِين، وصادق الكاتب المسرحي بيكيت، وعشق التأليف المسرحي فكتب روايةً متواضعة جدًّا وجعل بيكيت يسهر أسبوعًا بأكمله يسمعها منه، وتعرَّف إلى ابنة عم ملكة بريطانيا الأميرة ألكسندرا حتى دَعَته في حفلة عيد ميلادها. وفي الحفلة التي لم يحضرها سوى أعضاء الأسرة المالكة البريطانية وجد الملكة إليزابيث الأم واقفةً فتقدَّم منها وطلب مُراقصَتها فقَبِلَت ورَقصَت عدة مراتٍ معه. وخَرجَت الصحف البريطانية تتحدث في اليوم التالي عن «الأمير الباكستاني» الذي كان المَدعُو الوحيد الغريب في حفلة عيد الميلاد. وكان مارًّا من أمام قصر سان جيمس مرةً فوجد أضواء القصر متلألئةً والعربات الفخمة تقف وينزل منها مَدعُوُّون تبدو عليهم سيماء الوقار والخطورة، فقال لنفسه: وإيه يعني؟ ودخل القصر ووجد الحاضرِين يقفون طابورًا طويلًا ليُسلِّموا على الملكة فانضم إلى الطابور، وحين اقترب منها همس له سكرتير الملكة الخاص ألا يبدأ الملكة بالحديث وأن يكتفي فقط بردودٍ مُؤدَّبة على كلماتها، ولكنه حين وصل إليها بدأها بالحديث وسألها عن صحَّتِها وكيف قضت الليلة في القطار إذ كانت قادمةً من اسكتلندا خصيصًا لحضور هذه الحفلة المُقامة لأعضاء الوفود البرلمانية. ويقول الدكتور منسي صاحب هذه المغامرات: ويبدو أن الملكة وَجدَت في أسئلتي راحةً عظمى إذ كانت طَوال الوقت تُحيِّي رؤساء الوفود تحيةً رسميةً مقتضبة وعلى فمها ابتسامةٌ رسمية. وما كِدتُ أبدؤها بذلك الحديث العادي حتى انطَلقَت تتكلم معي. وسألتُها عن ولي العهد الصغير وكيف صحته وهل هو شقيٌّ مثل بقية الأطفال؟ وانطَلقَت تحكي قصصَ شقاوته، وتروي لي كيف استطاعت أن تنام في القطار رغم الضَّجة. ثم سألتها خِلسةً عن الحفلة وكم من المجاملات عليها أن تتحمَّلها؟ واستمر بيننا الحديث أكثرَ من ربع ساعة. كل هذا والطابور الطويل واقفٌ ينتظرني أن أنتهي ويتململ. وجاء السكرتير الخاص ولكزني طالبًا مني أن أُفسِح الطريق لغيري ولكني لم أُبالِ به فقد كان الحديث شائقًا وكانت الملكة مُنطلِقة. وحينئذٍ وجَدتُ شخصًا يضع يده على كتفي على هيئة خبطةٍ مفاجئة، والتفت وإذا به زوج الملكة الذي جرَّني بعيدًا وهو يسألني عن أحوالي ومن أي البلاد أنا. وأنا الآخر أسأله عن أحواله وأقترح عليه أن يعمل نجمًا تليفزيونيًّا (إذ كنتُ قد رأيت له برنامجًا تليفزيونيًّا تحدَّث فيه عن العلم وكان موفَّقًا جدًّا) فيما لو حدث وأعفَوه من مَنصِبه كزوجٍ للملكة. وجعلني الربع الساعة الذي قضيته أتحدث مع الملكة والربع الآخر الذي قَضيتُه أتحدث مع الأمير زوجها محط أنظار جميع رؤساء الوفود وكبار رجال الأعمال واللوردات الحاضرِين، فأخذوا يتسابقون في التعرف إليَّ ودعَوني إلى منازلهم وحفلاتهم. ولو كان في نبَّتي أن أنصُب عليهم لاستطعتُ هذا بسهولة وأصبحتُ بين يومٍ وليلة نجمًا من نجوم المجتمع الإنجليزي.
ولا تنتهي قصص الدكتور منسي عن مغامراته مع العائلات المالكة، ونجوم المجتمع البريطاني وغير البريطاني، تلك التي أتاحت له أن يكون صديقًا شخصيًّا لمعظم الوزراء البريطانيِّين والكتاب الإنجليز: بيكيت وبنتر ووسكر وجون آسبورن، ومشاهير المُمثلِين فهو صديقٌ شخصي للورنس أوليفييه وأورسون ويلز، والمُؤرخِين من أمثال أرنولد توينبي، هذا عدا ماكميلان وهيوم وويلسون وبيفان. وليس النجوم فقط فقد اشتغل لمدة خمسة أعوامٍ مع العمال والشعب الإنجليزي واخترق المجتمع طولًا وعرضًا وعرف كل خباياه ومشاكله.
ولقد قضَيتُ ليلةً حافلة أستمع فيها لمغامرات الدكتور منسي، وكان الشك كثيرًا ما يتسرب إلى نفسي وأُحاوِل السخرية من مغامراته ولكن — وهذا هو الغريب — كان ثَمَّةَ صديقٌ سوداني لا أشك لحظةً واحدة في صدقة قد عاصر الدكتور منسي في مغامراته ورآها رأي العين، وكان يُؤكِّد لي أن كل حرفٍ يقوله صحيحٌ وأنه لا يُبالغ أبدًا.
أتعرفون السر في هذا النجاح الساحق الذي لاقاه الدكتور منسي في إنجلترا؟ السر بسيطٌ جدًّا، لقد أتقن الحديث بالإنجليزية وعلى الطريقة الإنجليزية إلى درجةٍ مذهلة، وكان هذا وحده جَوازَ مروره.