جوائز الدولة
جلسةٌ طويلةٌ مع كمال الطويل والموضوع واحدٌ متشعبٌ عريض، بدأه الفنان اللاذع أحمد رجب بكلمته في المُصور عن جوائز الدولة. وقبلها بليالٍ كنتُ في جلساتٍ طويلةٍ مماثلةٍ مع إخوانٍ من المُهندسِين والعُلماء والأطباء، والحديث أيضًا عن جوائز الدولة للعلوم والفنون والآداب. واعذروني إذا كنتُ قد بدأتُ أَعتقِد أن جوائز الدولة هذه خُرافةٌ من الخُرافات، لا بسبب الدولة فالدولة والثورة أدَّت ما عليها ورَصدَت مِئاتِ الأُلوف من الجُنيهات كي تُوزَّع على نوابغِ المُنتخَبِين في كل قطاعٍ من قطاعات حياتنا. الخُرافة قد تكون في اللجان التي تتحكَّم في توزيعِ الجوائزِ والعقلياتِ التي تتحكَّم في قَراراتِ اللجان، ولكن المشكلة الحقيقية لَيست أيضًا في اللجانِ أو عقلية أعضائها وقرارتهم، ولا حتى في جوائز الدولة أصلًا، المشكلة أَعمقُ وأَخطرُ وأهم.
فالمفروض أن الثورة يقوم بها جيلٌ وطليعةُ جيلٍ تقود الشعب بأكمله لِسَحق الأوضاع والنظم وأنواع الحكم التي تَغُل الشعب وتَحبِس قدرته على التفتُّح والإنتاج. هذا الجيل مهمته لا تنتهي بنجاح الثورة، ولا تَتِم إلا بإقامة أوضاعٍ جديدةٍ أكثرَ ثوريةً ورحابةً وتطورًا؛ لهذا فالجيل الذي يُمهِّد للثورة هو وحده القادر على تنفيذها، وإذا نفَّذها فهو وحده القادر على خلق نُظمِها وبنائها الثوري الجديد. العقل لا يتصور حينئذٍ أن يقوم جيلٌ ما بالثورة وينتهي دوره ليتسلمها منه جيلٌ آخرُ لم يعمل لها ولا آمن بها ولا خَطَر بباله احتمال قيامها.
ولكن هذا على وجه التقريب ما حدث؛ فالثورة حين قامت لم تبدأ بتحطيم جهاز الحكم السابق وتُنشئ لنفسها جهازًا ثوريًّا من خَلقها وصُنعها، عناصرُه مُنتقاةٌ من الجيل الذي صنع الثورة وطليعتِه.
كان أمامها معارك أهمُّ وأخطرُ عليها أن تُواجِهَها، وهكذا استعانت الثورة بجهاز الحُكم نفسه بعد أن غيَّرت اتجاهه وقيادته ليعمل مع الشعبِ بعد أن كان يقف ضده، وجهاز الحكم ليس فقط جهاز الحكومة، هو أيضًا ركائز الحكم ومُفكِّروه ودُعاتُه وخبراؤه، هذا الجهاز كان مُكوَّنًا من عناصرَ بالبَداهة لا تمت إلى الثورة بصلة، لا آمنَت بها ولا عمِلَت من أجلها ولا تنبَّهَت لها إلا بعد أن أصبحت حقيقةً ملموسةً واقعة، حينئذ فقط آمنَت بها إيمانًا كلُّ مداه محاولةُ تملُّقِها لعل وعسى ينجحون في كسب رضاها وإبقائهم في مراكزهم.
ولقد اضطُرَّت الثورة لهذا وأصبح الوضع في غاية الغرابة؛ فقد أصبَحَت تلك الركائز السابقة دعاماتٍ أساسيةً من دعامات حياتنا بعد الثورة، هي التي تملك بيدها كل المفاتيح، هي التي «تُفكِّر» للثورة، هي التي تقترح ومن أفرادها تتكون اللجان، وبعقليَّتها تختار المُوظَّفِين وترسل البعثات وتصعد وتهوى بمن تشاء.
وهكذا حين اندفع جيلُ هذه الثورة الحقيقي، الجيل الذي تَخرَّج من كوبري عباس ودبَّر للثورة سرًّا وعلنًا، وأصدر جرائدَ ومنشورات، ووقف يُقاوِم مشاريع الاستعمار ويُبشِّر بالتغيير الشامل القادم، ويُمهِّد ليوم ٢٣ يوليو المجيد. حين اندفَع هذا الجيل بعد نجاحِ الثورة يلتفُّ حولها ويحميها ويُدافِع بالدم والروح عنها، وبكل طاقته يُنتِج في كافة المجالات والميادين إذا به يُفاجَأ بعد حينٍ بأنه لا يملك مصيره، وأن مصيره في يد أُناسٍ لا يُنتِجون، عقيمِين يَحقِدون على المُنتجِين ويعملون ما في وُسعِهم لفرملة إنتاجهم وخَنقِه وقَتلِه، ولو استطاعوا لقتلوهم هم الآخرِين في عمليةِ دفاعٍ عن الذات الأنانية دفاعٍ دنيء. يستعدون فيه للتضحية بالصالح العام كُلِّه من أجل صالح كلٍّ منهم الواحد الخاص.
وهكذا تكوَّن الوضع، الجيلُ الثائرُ المنتج في كل مجالٍ يقف له بالمِرصاد أناسٌ من مُخلَّفات النظام البائد وركائزه. يستعملون كما استعمل الرأسماليون الإمكانيات الضخمة التي تُوفِّرها لهم دولة الثورة، لا لكي يُثروا ويُضاعِفوا الأرباح كما يفعل الرأسماليون قبل أن تُلزِمهم الثورة الحد، ولكن هو — في رأيي — أَسوأُ وأَبشع. إنهم يستعملون هذه الإمكانيات في عرقلة جهود المئات والآلاف ومئات الآلاف من الجيل الذي ثارَ لِيُنتِج ويَغمُر بلادنا بطاقاته وإنتاجه.
والنتيجة؟ خطيرةٌ للغاية، فبعضهم يكُف عن الإنتاج أصلًا، وبعضهم يتحول إلى الملَق والرياء وينبذ آراءه وشخصيته لِيَسمَحوا له بالمرور، والجيل مُتحملٌ صامد؛ فالثورة ثورته وهو لا يستطيع إلا أن يثور على هذا الوضع إذ ربما مَسَّ هذا ثورتنا، النتيجة عرقلةٌ وتكسيرٌ وتحطيم. في كل مجالٍ تجده. أعرف بضعة مُهندسِين شبان طالبوا بأن يعملوا وتُتاح لهم فرصة الإنتاج فغضب عليهم مُديرُ معهد بحوث البناء ونقلهم من المعهد. أعرف رئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الذي جاءت به الدولة لِيرعى الشعر والشعراء، أعرف أنه لا يعترف بكل شعراء هذا الجيل، فكيف «يرعى» وهو أصلًا لا «يعترف» بهم؟ وكيف يرعى عزيز أباظة المسرح وهو لا يعترف بكل أبناء الجيل من كُتَّاب المسرح؟ وكيف تُمنَح جائزة الدولة التشجيعية في الموسيقى لِمُلحنٍ تردَّد أنه يُعادِي كل تطويرٍ للمُوسيقى العربية.
إنها لمأساةٌ عُظمى، أن تقوم «الثورة» لِتُعهَد لمن «يُجمِّدون» الأوضاع التي كان من المفروض حتى بدون ثورةٍ أن تتطوَّر، يُجمِّدون «التطوير» نفسه، فما بالُك بالثورة، أعْلَى وأحدِّ وأخطرِ أنواع التطوير؟!