عشيق الليدي تشاترلي وقضية الجزائر
ذكَّرَتني المقالات والتحقيقات والتعليقات التي كُتِبَتَ في جرائدنا ومجلاتنا عن رواية عشيق الليدي تشاترلي بمشكلة. المشكلة هي موقفنا من الفكر والثقافة الأوروبية. إننا نُلاحِظ باستمرار أن معظم القضايا والمشاكل التي تثار في أوروبا وأمريكا نتلفَّت بعد قليل لنجد أنها أُثِيرَت عندنا لا باعتبارِ أنها أخبار، ولكن باعتبارها قضايا يجب أن نحياها ونَنفعلَ بها وكأنها قضايانا ومشاكلنا، وهو اتجاهٌ ليس موجودًا فقط في مجال الثقافة، ولكنه واضحٌ أيضًا في الصناعة والهندسة والعمارة، وحتى في أدق العادات الاجتماعية والمُودات. أكثر من هذا، صحافتنا نفسها — بأبوابها وتعليقاتها وكثيرٍ مما يُنشر فيها — نجده مأخوذًا نصًّا أو روحًا عن جرائد الغرب ومجلاته، حتى بيوتنا نفسها وأثاثها وملابسنا. كل شيءٍ ننقله نقلَ مسطرةٍ عن أوروبا.
وأنا هنا لا أُحاوِل أن أُناقِش مشكلةً ضخمة كهذه في السطور القليلة. لن أُحاول أن أقول كيف يمكن أن نُحيِي هندستنا المعمارية ونضع أثاثًا يتلاءم مع جونا وبيئتنا ونُحاوِل أن نجد لنا أرضًا عربية نقِفُ عليها في علومنا وفنوننا وصناعتنا، إني أحاول فقط أن أُشير إلى المشكلة؛ إذ هي في الحقيقة مشكلةٌ لا يمكن أن تُحلَّ إلا بوجود حركةٍ فكريةٍ ضخمة تدعو إلى أن نكون أنفسنا أولًا ثم نتزود بالثقافة والحضارة من كل مكان، أمَّا أن ننقل كل شيء عن الآخرِين فهو طريقٌ ممكن أن يجعلنا مُتحضِّرِين، ولكنه سيسلبنا روحنا وأنفسنا وقدرتنا على أن نُساهِم نحن أيضًا في الابتكار والاختراع وتحضير العالم.
ولا يقول قائل إننا يجب أن ننقل أولًا ونُقلِّد ثم بعد هذا نبحث عن أنفسنا؛ فالنقد والتقليد ما لم نقُم بهما ونحن نعرف بالضبط ماذا نفعل وماذا نحتاج ومن نحن، ممكن أن يجعلنا نفقد القدرة على العثور على أنفسنا وتظل باستمرارٍ مُجرَّد حَضارةٍ مُصطنعةٍ تدور في فلك أوروبا وتتبعها. يجب أن نستعد لهذا الاستقلال «الروحي»، لا أقول نُعادي الحضارة الأوربية أو نُقاطِعها وإنما فقط أطلب أن «نستقل» عنها نكُفَّ قليلًا عن النقل والتَّردَاد ونبدأ نُحاوِل انتزاع أفكارنا وقضايانا من مجتمعنا وواقعنا، وكمثالٍ على هذه الأيام القليلة الماضية نفس الأيام التي كان الحديث فيه دائرًا عن عشيق الليدي تشاترلي كانت تُوافق ذكرى حرب التحرير الجزائرية. ومع أن حرب التحرير الجزائرية مُشكِلةُ مشاكلنا إلا أننا للأسف نعرف عن ثَورةٍ كالحرب الأهلية الإسبانية أضعاف ما نعرفه عن حرب الجزائر؛ ذلك لأن كُتاب أوروبا ومُفكِّريها تحدثوا كثيرًا في كتبهم وتاريخهم عن الحرب الإسبانية، ونحن نُردِّد خلفهم هذا الحديث، مع أنه في نفس الوقت الذي حدثت فيه الحرب الأهلية في إسبانيا — تقريبًا — كانت حرب إبادةٍ غاشمةٍ نذلة تحدث في مكانٍ آخر من العالم، في أفريقيا، ويرتكبها الدوتشي وجيشه ضد الشعب الحبشي ويستعمل فيها أقذر الأسلحة والغازات السامَّة لأوَّل مرةٍ ولآخر مرةٍ في تاريخ الحروب والإنسان، ولكنَّ أحدًا من مُثقَّفي أوروبا لم يتطوع للقتال بجوار الشعب الحبشي، كلهم تَطوَّعوا لنصرة الشعب الإسباني باعتباره شعبًا أوروبيًّا ومشكلته مشكلة أوروبية، أمَّا الشعب الحبشي فقد أُحِيلَت قضيته إلى أضابيرِ عُصبة الأُمم.
وقضية المَجَر كبَّرَها الفكر الأوروبي وضخَّمها وجعل منها جريمة روسيا الكبرى، باعتبار أن روسيا الشيوعية اعتدَت على الشعب المَجَري الأوروبي، أمَّا حين تعتدي فرنسا الأوروبية على الشعب العربي الجزائري الأفريقي فالمسألة لا تعدو أن تكون سُوء سياسةٍ من ديجول، أو نزعةً لاستعادة مجد فرنسا الغارب. إن الفكر الأوربي ضَحِك علينا وعلَّمَنا ألَّا نكون مُتعصِّبِين في نظرتنا بينما هو نفسه بِطبيعتِه مُتعصِّبٌ صارخ التعصُّب لأوروبا البيضاء. إن تعاوُن دول حلف الأطلنطي في حربٍ صليبيةٍ لمساعدة فرنسا في الجزائر لا يُثير فكر أوروبا ولا ضميرها، بينما حِصارُ برلين مثلًا يقيم قيامة أفكارهم وضمائرهم. إن مشكلة قضية الجزائر أنها ليست مشكلة أوربية و«د. ﻫ. لورنس» لم يُؤلِّف رواية عنها ولا تَطوَّع هيمنجواي لِيُحارِب في صفوف ثُوَّارها. كلُّ ما حدث أن بعض كُتاب فرنسا ومثقفيها اشمأزَّت ضمائرهم وراحوا يُهاجِمون حكومة ديجول باعتبار أنها ترتكب في حق فرنسا، وليس في حق الجزائر، جرائمَ كُبرى حين تتصرف مع الشعب الجزائري بطريقةٍ غيرِ مُتحضِّرة؛ أي غير أوروبية. وقد يأبى البعض أن يُصدِّق، ولكني أُحِسُّ أننا نحن الآخرِين نتناول قضية الجزائر من خلال نظارات سارتر وساجان، فلا نفعلُ أكثرَ من أن نكتب نُؤيِّد الكُتاب الفرنسيِّين في موقفهم من تأييد قضية الجزائر. تصوَّروا، نُؤيِّد التأييد ناسِين أن قضية الجزائر قضيتنا، حربنا الإسبانية والحبشية ومعركة حريتنا نحن، وإذا كانت حكوماتنا قد وقفت موقف التأييد فمفروضٌ أن يكون موقفنا نحن كشعوبٍ هو موقف الجنود، هو موقف الحِلف الشعبي العربي من حِلف الأطلنطي الصليبي. مفروضٌ قبل أن يأتي المُتطوِّعون الصينيون والروس لِيُقاتلوا بجوار الجنود العرب أن يأتي المُتطوِّعون العرب ليقفوا بجوار إخوانهم العرب؛ فهي قضية العرب وأعداؤها أعداء العرب، والنصرُ فيها لا يمكن أن يأتي من هيئة أُمم ولا من شرقٍ أو غربٍ طالما نحن لا ننصر أنفسنا.
أجل، الجدل الكثير الذي دار حول عشيق الليدي تشاترلي جَعلَني أفكر في أشياءَ كثيرةٍ وأحلُم، أَحلُم بخُطباء المساجد وشبابنا الثائر وقد انتشروا في بلادنا يَدْعون للجهاد المُقدَّس، أحلم بمكاتب حكومة الجزائر في العواصم العربية وقد فَتحَت أبوابها الرسمية وأصبَحَت مراكز لِقيد المُتطوِّعِين، أتصور حملاتٍ لجمعِ ملابسَ وعتادٍ وطعامٍ ودواء للمُحاربِين، بكُتابٍ وشُعراءَ تركوا الأوراق والأقلام وأمسكوا المدافع. أحلم بأننا كُلَّنا قد قُمنا لِنقضي على الاستعمار في الجزائر.