ولك مني أطيب التمنيات
أعترف أني في حَيرةٍ بالغةٍ من أمر صديقنا وزميلنا الأستاذ يوسف السباعي؛ فهو كشخص، من أظرف وأطيب وأنبل خلق الله، إلى درجةٍ تَخجَل معها حتمًا أن تقول له كلمةً تُغضِبه حتى لو كانت كلمةَ حق، وهذه ليست المشكلة، المشكلة أن هذا الفنان الطيب الظريف الخفيف الدم يشغل عدةَ وظائفَ بالغة الخطورة؛ إحداها سكرتيرية المجلس الأعلى للفنون والآداب، والمجلس جهازٌ ضخم مُتعدِّد اللجان والمهام مُتنوِّع الأدوار، ومن غير المعقول بالمرة ألا يخطئ المجلس أو تخطئ إحدى لجانه أخطاء تُصيب بعض الناس بالضرر؛ ضرر لا بد أن يتحركوا معه ويرفعوا أصواتهم بالاحتجاج أو الشكوى. والكارثة أنه ما من مرةٍ حدث هذا إلا وأخذ الأستاذ يوسف السباعي أيَّ صوت احتجاجٍ أو شكوى على أنه إهانةٌ وُجِّهَت لشخصه، وثار وغضب. وهكذا في كل مرةٍ أرى، أو يرى غيري، أن في أعمال المجلس أو قراراته أو حتى في وضع جمعية الأُدباء أو نادي القصة ما يُوجب الكتابة ولَفْت النظر، كنتُ في العادة أَكظِم نقدي وأسكت؛ فلا شيء يؤلمني قدر إغضابِ صديق، خاصةً إذا كان له مثل أدب يوسف السباعي ونقائه وبراءته.
والمشكلة الثانية أن طريقة يوسف السباعي هذه تنسحب أيضًا على علاقاته الخاصة؛ فهو يعطي لنفسه حرية أن يتصرف كما يحلو له، ويغضب إن أنت عاملتَه بالمثل. كتبت له مرةً خطابًا في مناسبةٍ خاصة فنشر الخطاب على صفحات الجمهورية، ولم يَكتفِ بهذا بل كتب مُقدِّمةً قصَّ فيها — من وجهة نظره — قصة لقائي به، وعلاقتنا وكيف زجرني أحيانًا وقسا عليَّ، أشياء ليست أعمدة الجرائد مكانها، ولا المناسبة مناسبتها، ولو كان أحدٌ قد فعل نفس الشيء معه لهاج وماج واحتقن وجهه بالغضب. وفي الأسبوع الماضي كتبتُ أنقد بعض أعضاء لجنة التحكيم في جائزة الدولة، وآثر يوسف السباعي أن يرُدَّ هو فكتب مقالًا في روز اليوسف استحلَّ لنفسه فيه أن يصف ما فعلتُه بأنه حركةٌ مسرحيةٌ مُتشنِّجة، وزعم أني فقَدتُ صوابي، وأن على شخصٍ ما أن يرُدَّ إليَّ صوابي، ومن سوء حظ صداقتنا أن يكون عليه هو أن يفعل ذلك، وسطور المقال مَحشوةٌ بالغمز واللمز، ونهايتُه أعجب إذ يقول: يا يوسف، اعقِل.
فبالله عليكم كيف أَرُدُّ على يوسف السباعي. هل أَنتهِز الفرصة وأَدخُل معه في مهاتراتٍ شخصية وأُعامِله بلا كُلفةٍ وكأننا جالسان على قهوة وأقول له: عيب يا أبو حجاج. الحقيقة لا أستطيع أن أفعل؛ لأني أولًا لا أحب هذه الطريقة، ولأني ثانيًا ليست حرًّا في رفع الكُلفة مع يوسف السباعي على صفحات الجرائد أو في لومه كشخصٍ وتأنيبه؛ لأن يوسف السباعي له صفةٌ أخرى، هي التي يُخاطِبها الناس حين يكتبون عنه في الجرائد، وهي وحدها التي تَعنِينا هنا إذ هي صفة المُوظَّف المسئول، أمَّا يوسف السباعي كشخصٍ وكصديقٍ فلا يمكن أبدًا أن أُفكِّر في عتابه أو التحدُّث إليه أو الهَزْل معه أمام جماهير القُراء وعلى حساب وقتهم ونقودهم ومشاكلهم.
لهذا فأرجوك يا أستاذ يوسف، لِنتفق أولًا على أن تفصل فصلًا تامًّا بين يوسف السباعي الكاتب ويوسف السباعي الشخص ويوسف السباعي المُوظَّف المسئول؛ هذا اليوسف الأخير هو الذي أُخاطبه. وهو يوسف لا يليق به أن يتحدث في أمورٍ شخصية، ولا يليق بي، حتى لو تحدث، أن أُعنِّفه أو أؤنبه أو أقسو عليه.
إذا اتفقنا فيمكننا أن ندخل في الموضوع وأرجو أن تعذرني إذا قلتُ لك إنني بعد كل هذه المقدمة الطويلة لا أجد مُبررًا للدخول في الموضوع بالمرة؛ فقد كنا نتناقش حول صلاحية بعض أعضاء لجنة التحكيم لجائزة القصة القصيرة، وكنا نحن في هذا، ولجنة التحكيم كانت تتخذ قرارًا، أَغرَب وأَعجَب قرارٍ اتخذَته لجنة تحكيمٍ قامت في أي بلدٍ من بلاد العالم، قرارًا باستبعاد جميع الكُتب التي قدَّمتُ والتي كَتبتُ حوار بعض قِصصها بالعامية. وعلى هذا استَبعدَت اللجنة كُتبَ جميع المتقدمِين ما عدا ثلاثة. ولا أعرف إن كنتَ وأنت تكتب ردَّك كنت عالمًا بالقرار أم لم تكن تَعلَمه، ولكني أَذكُر ثناءك عليَّ في ردك، وقولك: ولستُ أظن أن فوزه بالجائزة أو حرمانه منها يمكن أن يُضيف أو ينقص من قدره؛ لأنه بلا جدالٍ لم يعُد في حاجةٍ إلى أن يُقوَّم قَدْره بجائزةٍ ما؛ لأنه أَثبتُ قدمًا وأَكثرُ قدْرًا من أن تنقصَه أو تزيدَه جائزة.
كنت أنت، سكرتير المجلس، تقول هذا مشكورًا، وكانت اللجنة التي اخترتَها بنفسك تحكم على إنتاجي وعلى إنتاج جميع من يكتبون القصة القصيرة — باستثناء ثلاثة — بأنه غيرُ جديرٍ بالعرض عليها أصلًا، فما معنى هذا؟ وعلى أي حقٍّ أو نصٍّ استَندَت اللجنة في اتخاذ القرار؟ وكيف تأخذ موقفًا خطيرًا كهذا بغير عِلم المجلس وبغير عِلمِك، أو إذا كان بعلمِك فكيف تُعطي هذه الشهادة في حق إنتاج كاتبٍ رأته اللجنة التي اخترتَها أنه غيرُ جديرٍ بالعرض عليها؟ ولمصلحة من تقف اللجنة هذا الموقف؟ أَلِمَصْلحة الأدب والفن؟ كان عليها إذن أن ترفض البيان والتبيين للجاحظ كما يقول عميد الأدب العربي، وكان عليها أن تُلغي عودة الروح وقنديل أم هاشم وقصص المازني وطاهر لاشين ومحمود تيمور نفسه، وأجملَ وأروعَ ما في تراثنا من أدب وفن، بل كان عليها أن ترفض إنتاجَك أنت نفسِك فلا زلتُ أذكر مقدمة كتابك «وراء الستار» التي أَشبَعتَ فيها وزارة المعارف آنذاك سُخريةً لأنها رَفضَت تقرير بعض إنتاجك على التلاميذِ لأن الحوار فيه يدور باللغة العامية. وهل اتخاذ قرارٍ كهذا بشأن كُتبٍ طُبِعَت فِعلًا وقُرِئت ونَفدَت من السوق هو الذي سيحمي اللغة العربية ويرفع شأنها؟ وهل رفعُ شأن اللغة يكون بمصادرة إنتاج جيلٍ بأكمله من الكُتاب لأن في بعض صفحاته حوارًا بالعامية؟ هل الوقوف موقف البطش والإرهاب والرفض من جانب اللجنة هو الذي سيُخيف الكُتاب ويجعلهم «يُحرِّمون» كتابة الحوار بالعامية؟ أم نسمع ما يُقال من أن المقصود ليس مصلحة اللغة ولا الأدب وإنما هو لِغلقِ دائرة الجائزة على هذا الكاتب أو ذاك، كاتب كلُّ مُؤهِّلاته أنه يكتب الحوار بالفصحى؟
دَبِّرنا يا أستاذ يوسف وأَشِر علينا بما نفعله. المجلس الذي أُنشئ وتنفق عليه الدولة مئات الألوف من الجنيهات وربما ملايينها من أجل إنعاش الحركة الأدبية ورعاية الكُتاب والفنَّانِين، المجلس الذي كان من واجبه أن ينشط ويدفع ويجعل من القاهرة وكُتابها مركز الإشعاع الثقافي والفكري والفني لآسيا وأفريقيا، هذا المجلس بدلًا من أن يحتضن الكُتاب والفنَّانين ويُشجِّعهم ويُرسلهم في بعثاتٍ للدراسة وللتبادُل الثقافي ويُرغِّب لهم الفن والأدب ها هو ذا يتحول إلى جهاز كل مهمته أن يرفض ويزجر ويطرد الكُتاب والفنانِين من جنَّات الرعاية؛ الشعراء ترفضهم لجنة الشعر وتسخر من إنتاجهم وتحيل دواوينهم — زيادةً في السخرية — إلى لجنة النثر باعتبار أنها ليست شعرًا، وكُتاب القصة يُرفض إنتاجهم جملةً وتفصيلًا وبأوهَى حُجة، وفي المسرح ها هي لجنته في الطريق إلى قطع الطريق على إنتاج الكُتاب الشبان وبحُجة العامية والفصحى أيضًا.
والطريف في الأمر أنك بإنتاجك يا أستاذ يوسف مع المَطرودِين المَمنوعِين؛ إذ لو كان إنتاجك قد عُرِض لرُفِض بنفس الطريقة. أليس في هذا ما يدعو إلى الضحك؟ وهل المشكلة أن ترفض وتقول ممنوع؟ لو كان الأمر كذلك لكان من المُستحسَن أن نُوفِّر على الدولة مئات الألوف من الجنيهات، ونُلغي لجان المجلس ومكافآت أعضائه ونكتفي بساعٍ معه ختمٌ بكلمةِ ممنوع يبصُم به كل إنتاجٍ جديد. حسنٌ جدًّا! لقد أديتم مهمتكم بنجاحٍ ورفضتم جميع الإنتاج المُعاصِر في القصة والشعر والمسرحية، أهذا كل شيء؟ أهذه هي كل الرعاية؟ أهذا هو الهدف؟ ماذا إذن عن التأليف؟ لماذا ما دمتم غَيورِين إلى هذه الدرجة لا تتخذون قرارًا بأن تُؤلِّفوا أنتم؟ لا بد لكم من اتخاذ قرارٍ كهذا؛ فإن أحدًا لن يُؤلِّف حسب مواصفاتكم أبدًا، وباستطاعتكم أن تفخروا بأنكم رعيتم الحركة الأدبية إلى حد الخَنق والازدراء والقتل، سَلِمَت أيديكم وشكر الله سعيكم.
تريد الصراحة يا أستاذ يوسف، الجيل المعاصر من الكُتاب والشُّعراء والفنانِين في حالة يأسٍ كامل، وكل ما نطلبه هو الرحمة من هذه «الرعاية» وأن يُقدِّر لنا أن يمُدَّ أعمارنا إلى أن نرى لجانًا أخرى غيورةً على الأدب والفن حقًّا، بعقلياتٍ أخرى، بفهمٍ آخرَ للحياة، ولأجملِ ما في الحياة، قدرة الإنسان على الخلق والابتكار.
وإلى أن يحدُث هذا لك مني ومن المطرودِين والمنبوذِين والمحرومِين من نعيم اللجان وقراراتهم أطيب التمنِّيات، ولننتقل إلى موضوعٍ يُفيد الناس.