أنخدع أنفسنا؟
ليس صلاح سالم أول عزيزٍ يموت.
ولا هو أوَّل من يدهمه الفناء في شرخ الشباب.
وليس قلبه الكبير أوَّل قلبٍ يتوقف عن النبض وتبتلعه متاهات العَدم.
لا، ولا هو أوَّل إنسان يعز على النفس أن تتخيله حيًّا موفور الطاقة مُشِع البسمات، الكلمة الحلوة تملأ فمه والإحساس العميق بالناس وأحزانهم ومتاعبهم الصغيرة يقُضَّ مضجعه، ثم تتخيله بعد هذا جسدًا ساكنًا لا حَراكَ به، وبركانًا خمد.
لقد كان صلاح سالم كلَّ هذا حقيقة، وأكثر منه.
كان بشرًا مثلنا، خجولًا، متواضعًا، ذكيًّا، حادَّ الذكاء.
ولكنه كان يملك ما لا يملكه معظم البشر.
كان ذا إرادة؛
إرادة للخير.
كان شهمًا.
في شهامته تراث شعبنا العريق في إغاثة الملهوف، ونجدة الخائف، والوقوف دائمًا وفي كل آنٍ مع الضعيف.
كان بطلًا.
إذا خُيِّر اختار مَوقِف البطل، وإذا هبَط عرف كيف يرفع رأسه، وإذا ارتفع خَفضَ بالتِّلقاء رأسه.
كان عزيز النفس.
رقيقًا عذبًا واثقًا بالناس صافي الضحكات.
هكذا كان صلاح سالم الرجل، هكذا عاشَرناه وصادقناه وأَحبَبناه وعِشنا معه تجارب أيامٍ طويلةٍ قصيرة مضت.
وعسيرٌ علينا أن نتصوَّر دارنا «دار الجمهورية» تلك التي كانت بالعام الماضي حافلةً به وبإسماعيل الحبروك ومحمد خالد وفضلون وقد أصبحوا في ذمة الله مرحومِين.
عسيرٌ علينا أن نتصوَّر الدار بغيره، بغير آرائه واجتماعاته وتوجيهاته والإشعاعات الخفية التي كان يبثها وجوده، بغير آلاف الخيوط الخارجة منه إلى آلاف القلوب الممتدة منها إليه، تلتقي عنده، وتُحيطه، وتتحرك معه أينمار سار.
آلاف القلوب التي قضَت العام الماضي كله تدعو له بالشفاء.
ليس عسيرًا فقط، ولكنه مستحيل.
كيف نكتب عنه كرجلٍ مات، وهو لا يزال في خواطرنا، في قلوبنا، في دارنا، في داره، حيًّا موفور الحياة.
ولكنه، رغم هذا كله، رغم المستحيل وآلام المستحيل، ألمُنا الأصغر.
أجل، إن فجيعتنا في صلاح سالم الرجل — رغم كل شيء — هي الألم الأصغر.
أمَّا الألم الأكبر.
الألم الهائل الذي يُضفي على الحياة بشاعة الموت.
الألم الذي لا سبيل إلى التعبير عنه إلا بالغيظ، الغيظ المُدمِّر الأهوج الذي يفوق في جدته وجبروته وَحدَة الموت.
ذلك الألم الذي لا طاقة لبشرٍ واحدٍ على احتماله.
فهو ألمُنا كمُواطنِين، كشعب، كمجتمعٍ كافح برجاله الظلم والعَسْف والاستعمار والهوان، ولكنه لم يملك إلا أن يُسلِّم ولا حول ولا قوة إلا بالله أمام الموت.
موت أحد ثواره.
ألمنا الأكبر هو في صلاح الثائر.
والثائر أيها الناس صِنفٌ نادر، ليس سهلًا أن نجده، ومستحيلٌ خلقه، وطِينتُه غيرُ طِينة البشر.
إنه الكائن بين المُثل العليا والناس.
إنه راهب الفكر، قِدِّيس الرأي، نبي القيمة، الواهب عمره وحياته وما هو أكثر من عمره وحياته لِيُحقِّق آمال الرجال وآماله.
الثائر لا يحيا حياتنا، ولا يفرح بمسرَّاتنا، ولا يمرض ولا يموت؛ فهو ليس شخصًا ولا جسدًا له مطالب.
إنه كلمة، وموقف، ومثل.
لا اشتراكه في الثورة صُدفة، ولا استمراره فيها يحدُث كيفما اتفق.
إنه المُحِب للحياة إلى درجة الثورة على أعدائها.
الغارق في الإيمان بها إلى درجة الرغبة العظمى في تطويرها.
ليس المحطِّم ليس المعارِض.
إنما المُغيِّر الباني المُدبِّر الواعي بالمستقبل.
وصلاح سالم كان ثائرًا من أبناء شعبنا.
ثائرًا لم يكتفِ باعتناق المبادئ.
وإنما بكل قواه، بكل عنفوانه، وبكل عجزه كان يُطبِّقها.
وبالأمس فقدناه؛ مات صلاح سالم.
فإذا كنا نستطيع الصبر على فقده كرجل،
فكيف نحتمل الخَسَارة فيه كثائر؟
ماذا أقول؟ أنُصبِّر أنفسنا؟ أنخدعها؟
أننادي بأن تستحيل الدموع في حلوقنا إلى هُتاف؟
مرارته أننا نعلم عن يقين أنه مُجرَّد هتاف.
كلام.
ماذا أقول أنصبِّر أنفسنا؟ أنخدعها؟
أمَّا أمر أن يتحول الرجل الثائر بحياته وكفاحه وتاريخه إلى كلام.
أنقول: ليظل حيًّا قلب الرجل.
وإلى الأبد تحيا مبادئ الثائر؟
العزاء لنا.
والحياة لك يا ثورة.
ولْيبقَ الأملُ فيكَ أيها المستقبل.