أهم قرار
لا أعرف لماذا ترتبط الوحدة وأعيادها في نفسي بدمشق. إنك كلما زرتَها أحسستَ أنك في قلبٍ عربيٍّ نابضٍ موحد. ولقد أتاحت لي الظروف أن أزور دمشق في أعوام ٥٤، ٥٦، ٥٨، وكنتُ كلما ذهبتُ إلى هناك أجد نفسي وكأني فجأة قد أصبحتُ في قاعةٍ كبرى ينعقد فيها مؤتمرٌ عربي دائم لمناقشة شئون العرب وقضاياهم ويبحث عن حلولٍ عاجلة لها، كنت أجد في دمشق مكافحِين عربًا من كل مكان، من العراق أيام نوري السعيد، ومن لبنان، من الأردن، من بيروت واليمن وإمارات الخليج، ومن المهجر ومن كل مكان، وأجدهم في حالة جدلٍ متحمسٍ مستمر، حتى في أثناء الفراغ يُحيلون جلسات القهاوي والغوطات إلى لجانٍ تتفرع عن المؤتمر الكبير، تُدرَس فيه القضايا على صعيد البحث الهادئ ولا ترتبط بجدولٍ مكتوب.
ولم يحدث مرة أن شهدتُ في دمشق أمرًا من أمور العرب يُناقش على أساسٍ محلي، أو إقليمي. وكان يُدهشني ويُسعدني معًا تلك الإحاطة التامة من رجال دمشق وشبابها بكل ما يحدث في أي قُطر من أقطار العالم العربي فلا أعجب أبدًا حين أجد القاهرة التي خلَّفتُها، أمامي في دمشق. وفيها أيضًا بيروت ومشاكل بيروت، وبغداد وكل ما يجري في بغداد، ولا أعجب حين أجد الطالب اليمني مُتوهِّج الحماس يناقش مع مدرسٍ مصري أوضاع الأقلية والأغلبية في لبنان. لا أعجب؛ فكل من يطأ أرض دمشق يتكفل مؤتمرها الكبير الدائب بأن يخلع عنه أثوابه الخارجية المصنوعة التي جاء بها، ويصبح عربيًّا كما وُلد وعاش، مسئولًا عن قومه العرب كما لا بد أن يكون الابن البار.
لهذا، فالحقيقة أن قيام الجمهورية العربية المتحدة، وإعلان الوحدة، لم يكن بالنسبة لدمشق سوى إقرار أمرٍ واقعٍ عاشته المدينة ولا تزال تحياه وترعاه، وتذودُ عنه.
ولهذا أيضًا لا أستغرب أن يُسافِر جمال عبد الناصر في كل عيدٍ من أعياد الوحدة إلى دمشق؛ إذ هو لا يفعل هذا كرئيس جمهورية، ولا يُجامل دمشق بالتهنئة والزيارة. إن ذهابه إليها اشتراكٌ واجبٌ في المؤتمر الدمشقي الكبير. وحين يهتف أهل دمشق: بِدنا كلمة من جمال. إنما هم في الحقيقة يريدون بيانًا، يريدونه أن يناقش حُجج أعدائهم أعداء العروبة، يُريدون أن يعرفوا منه خطَّة الغد، يُريدون حسابًا عن المكاسب والخسائر إذا كانت هناك خسائر.
ولقد تعوَّدنا أنه ما تكاد تنقضي بضعة أيام، أو حتى ساعات، على حضور جمال عبد الناصر لذلك المؤتمر إلا ويكون ثَمَّةَ قرار قد تمخَّض عنه المؤتمر، واتُّخِذ. ولقد كان القرار هذه المرة واضحًا وصريحًا، وجاء في وقته، إنه بعد ذَبْح لومومبا لم يَبقَ ثَمَّةَ مجالٌ للمساومة والحياد وأنصاف الحلول. لقد ذُبِح لومومبا في الجبهة الأفريقية، والذي ذبحه هو عميد الاستعمار تشومبي.
ولقد قام العرب قومةَ رجلٍ واحدٍ ومعهم الشعوب الحُرة من كل مكان يصُبُّون غضبهم على تشومبي. وقد اتضح أن العملاء لا يقلون خطرًا على الحرية من الاستعمار نفسه. هذه الثورة على العملاء في أفريقيا كان لا بد أن تنتقل وتُصبِح ثورة على العملاء في الشرق العربي. والوضوح الذي رأينا به حقيقةَ تشومبي وقذارةَ دوره كان لا بد أن يجعلنا نُفيق ونبدأ نتبيَّن حقيقة العملاء هنا مهما تنكَّروا واستخفَوا.
إن خطورة هذا المؤتمر الدمشقي الكبير أنه ربط بين كفاح العرب وكفاح أفريقيا، وبين أمريكا في الكونغو وأمريكا في الوطن العربي، وبين يد الاستعمار ووسائله المجرمة هناك ويده ووسائله هنا، وبين تشومبي وكازافوبو وموبوتو وبين زملائهم وأشباههم عندنا. خطورته أنه أدرك أن لومومبا مرحلة وبداية مرحلة، واستشهاده رمز وكذلك ناقوسُ خطر، وبطولته أنه ضحَّى بنفسه وكان يعرف أنه يُضحِّي بنفسه ليصرخ فينا قائلًا: يا من لا زلتم تؤمنون بعدالة الاستعمار وتفاهة أعوانه، يا من لا زلتم تتوسَّمون الخير في الأمم المتحدة وأمريكا، يا من تثِقون بالغرب وفرنسا، ها أنا ذا أموت، ها أنا ذا أمام أعينكم يُطلِق عليَّ الاستعمار رصاصَه وبخناجِره يذبحني لكي أُنقِذكم من نفس المصير. إن الكلمة التي لم أستطع أن أقولها بلساني ها أنا ذا أقولُها بدمي. ليست هناك طريقةٌ لمواجهة الأعداء إلا معاداتهم، والنصر لا يأتي إلا بحربهم، فإذا تهاونَّا مُتنا.
إن خطورة هذا المؤتمر الدمشقي الكبير أنه قد انعقد ليتخذ قرارًا واحدًا؛ أهمَّ قرار، أن يكون موقفنا من المعركة الوطنية واحدًا في كل مكان وزمان — أن ننصر لومومبا أنى وجد لومومبا، وأن نُعادي كازافوبو بأي اسمٍ يُوجد به كازافوبو. لقد كنا نستنكر بشدةٍ هذه الشتائم التي يَكِيلها الاستعمار وأعوانه للومومبا لا لشيءٍ إلا لأن لومومبا كان يُدافِع عن استقلال بلاده وشعبه ويُهاجِم الاستعمار عدوه، فلماذا نقف موقفًا مختلفًا من الهجوم الذي يُشَن على قيادتنا الوطنية هنا، لقد كان للومومبا أخطاؤه، ولا أحدَ معصوم من الخطأ، ولكنَّا بعد درس لومومبا لا بد أن نؤمن أن الهجوم على أي وطنيٍّ لا يمكن أن يكون إلا بوحيٍ وبخطةٍ من الاستعمار. وإذا كان لقيادتنا أخطاءٌ فمبجرد أن يُعدِّدها الاستعمار ويُذيعَها لا بد أن نراها فضائل.
بل حتى الوقوف على «الحياد» في هذه المذبحة القائمة بيننا وبين الاستعمار جريمة، إن فرنسا لا تقف على الحياد مع أمريكا، وعميلها في برازافيل الكونغو الفرنسي يُناصِر تشومبي. إن الاستعمار لا يُحايد بعضه، إنه ينصُر بعضه، ويتآمر جماعةً، ويُوزِّع الأدوار ويذبح ويقتل بلا أي ذرةِ رحمة. فإذا كان بعضُنا يُريد أن يقف موقف المُتفرِّج من المعركة فموقفه لا يخدم إلا الاستعمار، ولا يمكن أن نُعامِله إلا كما نعامل الاستعمار. لقد ظلَلْنا نئِن ونصبِر لمئات السنين حتى جاء وقتنا هذا الذي بَدأَت فيه شوكتنا تقوى وتضعُف فيه شوكة الأعداء، ولا يمكن أن نسمح لخلافاتنا او حزازاتنا أو مشاكلنا الصغيرة أن تحول بيننا وبين النصر في معركتنا الكبيرة. ولا يمكن أن نَتذكَّر الأخطاء ونختلفَ حول الأسماء والأشخاص وننسى العدو، وننسى المعركة؛ فالعدُوُّ ينسى خلافاته ويتذكَّر المعركة دائمًا، ويُحاربنا تحت رئاسة أيزنهاور وتحت رئاسة كنيدي وبديجول وغير ديجول، وبقيادة إيدن وحين ذهب إيدن؛ إذ كل ما يُهِمه أن يهزمنا، لا بد إذن أن يُصبِح كل ما يهمنا أن نهزمه؛ فنحن نُحارِب للوطن، والوطن باقٍ وكلنا ذاهبون، والنصر، استقلالنا وكرامتنا وحريتنا أكبرُ وأضخمُ من أن يُسجِّلها التاريخ لشخصٍ أو لأشخاص، إن التاريخ مضبطة الشعوب.