درس من سبندر
لدى عودتي وجدتُ في صندوق الخطابات مظروفًا ضخمًا عليه طوابع اليابان وأختامها، وباستغراب فضَضتُه فإذا فيه كتابٌ عنوانه «أولاد العم وقصصٌ أخرى». ووقعتُ في ورطة فقد وجدتُ المقدمة مكتوبةً باليابانية، بينما القصص بالإنجليزية، وأهم من هذا وذاك أن المُؤلِّف هو «ستيفن سبندر»؛ الشاعر الإنجليزي الكبير الذي زار القاهرة في فبراير الماضي. قلبتُ صفحات الكتاب فاكتشفتُ أن هناك إهداءً في الصفحة الأولى مكتوبًا في نصف الصفحة الأسفل على عكس عادتنا هنا، وكان الإهداء موجهًا إليَّ، وإلى «ذكرى النقاش الممتع الذي دار بيننا في القاهرة».
المشكلة التي وجدتُها تُواجِهني وتُحيِّرني هي كيف عرف الشاعر الكبير عنوان منزلي، ولماذا يُهدي إليَّ، بالذات كتابه، كل ما أَذكُره أنني قَابلتُه في أثناء الاحتفال الذي أُقيم في جامعة الأُدباء لأعضاء المؤتمر التحضيري لكُتاب آسيا وأفريقيا، وأن الصديق مرسي سعد الدين كان واسطة التعارُف. ورغم الازدحام الهائل وكرنفال الأجناس والألوان والأزياء، والفوضى المُحبَّبة، واحتشاد الغرفة بأبناء القاهرة وبكين وسيول وكابول، وزكريا الحجاوي واكتشافاته في عالم الفولكلور، وضجَّة النقاش والتعارُف الكثير السريع الذي يدُور في أمثال تلك الاحتفالات، إلا أني دُهِشتُ لستيفن سبندر؛ فعلى عكس ما نتصوره عن الشاعر وجدته أنيقًا مُنظمًا دقيقًا حتى في تصفيف شعره الأبيض المَهيب واختيار كلماته، حتى بدا لي وكأنه يُمثِّل شاعرية النظام وروعة الاستتباب النفسي، ورغم الاكتظاظ فقد ظلَلنا أكثر من نصف ساعةٍ نُناقش الفرق بين الشاعر والقصَّاص حين يُعبِّر كلاهما عن ذاته أو عن تجربةٍ شخصيةٍ مرت به.
تَذكَّرتُ هذا كله وأنا أَتصفَّح الكِتاب، ولكن المشكلة لا تزالُ بغير حل، كيف عرف ستفين سبندر عنواني. يئستُ أن أعثُر على جواب، ووجَدتُ شغَفي بقراءة القِصص أشد. الكتاب مطبوعٌ في اليابان بتصريحٍ من دُور النشر البريطانية في سلسلةٍ تضُم خُلاصةً لأروع الأعمال التي كُتِبَت باللغة الإنجليزية لشكسبير وشيللي وميلتون وأوسكار وايلد وكالدويل وإيليوت وجاسكل وهكسلي وبيتس وسبندر. بالكتاب ثلاث قِصصٍ من النوع الذي يُطلِقون عليه: القِصص القصيرة الطويلة. والحقيقة رُوِّعتُ؛ فالقِصص الجيدة من هذا النوع قليلةٌ جدًّا في الآداب العالمية لا يكاد يذكر الإنسان منها غير المعطف لجوجول، وكرة الشحم لجوجول، وكرة الشحم لجي دي موباسان، والحائط لسارتر، وحياتي لتشيكوف، ورجال وفئران لشتاينبك، وباستطاعتي أن أضيف الآن: وأولاد العم لستيفن سبندر. إنه أستاذٌ لا يُبارَى في هذا المجال، وقِصصُه الثلاث كانت بالنسبة إليَّ اكتشافًا.
المهم أني وأنا أقرأ فِقرةً من قصته الثالثة «بجوار البحيرة» تَذكَّرتُ كل شيء؛ فحين كاد نِقاشُنا أن ينتهي أجاب على إعجابي بآرائه في القِصة بقوله في تواضُعٍ جم، أنه بجوار الشعر يكتب القِصة أيضًا وحين أَبديتُ دهشتي وأَسَفي لأني لم يُتَح لي أن أقرأ له قِصصًا، أَذكُر أنه سألني عن عنواني فقلتُه له، وكَتبَه في باطن عُلبة كبريتٍ كانت معه. ولحظتَها ابتَسَمتُ فقد ذكَّرتني طريقته بعشَرات المرَّات التي كَتبتُ فيها عناوين وأرقام تليفونات ووعودًا بمكالمات ومراسلات على علب سَجائرَ وكبريت وأوراق. واعتقدتُ أن مصير عنواني حتمًا سيكون له نفس مصير العناوينِ التي آخذها، ولِتأكُّدي من هذا أهملتُ الموضوع ونَسِيتُه حتى قبل أن تنتهي الحفلة. لم أَتذكَّرْه إلا هناك، وقد وصل إلى الكتاب فعلًا، وصل إليَّ وقد نَسيتُ أنا كل شيء عن سبندر والليلة والنقاش، بل لم ينتظر الرجل أن يعود إلى لندن لِيُرسله، أبدًا، من أول بلدٍ صادف فيها أثناء تجواله نُسخةً من أحدِ كُتبه، من اليابان، سارع بإرسالها لِيُوفي بوعده الذي أعطاه في ازدحام وعودٍ وتأكيدات. ووعد ممن؟ من شاعرٍ يغتفر الناس له مُقدَّمًا أن ينسى أمثال هذه الوعود الصغيرة باعتباره لا بد مشغولٌ بما هو أهم وأعظم.
تأمَّلتُ هذا كله وأَحسَستُ بالخجل، كم من صديقٍ كتب لي ولم أَرُدَّ عليه، كم من مُواطنٍ قارئ كلَّف نَفسَه العناء وأرسل، كم من مئات من الوعود الصغيرة والواجبات الصغيرة لا أُبعثِرها أنا وحدي ولكنَّا جميعًا، نُبعثِرها في سخاءٍ ليس له نظير.