العجوز والصحراء
أظنُّنا جميعًا نعرف قصة الأُسطورة التي تقول إن سيدنا سليمان مات وهو واقفٌ مرتكزٌ على عصاه، ومع هذا بقِيَت الجن والإنس والحيوانات تعمَل خوفًا منه واعتقادًا منها أنه لا يزال حيًّا. والأسطورة لا تحدد عدد السنين التي ظل العمل فيها يدور على هذا النحو، ولكنها تذكُر أنه بعد مدةٍ طويلة بدأت نملة تتساءل إن كان ما يزال حيًّا، وحين اشتد الجدل تطوَّعَت أن تقوم بقرضِ عصاه لِتُثبت للجميع أنه مات، ولولا العصا لخرَّ جثةً هامدة. وبالضبط هذا ما حدث؛ فلقد ذَهبَت النملة وقَرضَت العصا وإذا بسليمان يسقُط، وإذا بهؤلاء المَرعوبِين من وجوده يُدركون أنه مات، فيكفُّون عن العمل الذي كان قد سخَّرهم للقيام به، وينتشرون في الأرض أحرارًا.
تَذكَّرتُ هذه الأسطورة وأنا أتابع هبوط القوات البريطانية على أرض الكويت كما نقلَته بعثة التليفزيون العربي. لأول مرةٍ أُحِس أن الكاميرا يمكن أن تتحول في اليد الماهرة إلى سلاحٍ أشدَّ فاعليةً من القلم، ومن السيف أحيانًا؛ فالحقيقة أني ظلَلتُ أتأمَّل العساكر البريطانيِّين الهابطِين إلى الأرض العربية، وتتداعى في نفسي آلافُ المعاني، وأسترجع الذكريات. إن لهم نفس أَردِية الإنجليز ودبَّاباتهم ومدافعهم، ولكن شتان، شتان بين إحساسنا بهم أيام الحرب الثانية وأيام كانوا يحتلون أرضنا وإحساسنا بهم الآن. أبدًا لم يعُد لهم وقع القوة القاهرة المحتلة. لأول مرةٍ أُحِس بهم جنودًا في جيشٍ مُرتزقٍ لا يُدافع عن إمبراطورية أو وطن أو عدالة وإنما يسفح دمه وبالأجر دفاعًا عن شركاتٍ وأصحاب شركات. ما أَخيبَه من هدف! والعساكر أنفسهم. لقد رحتُ أَعجَب، أهذا هو الجيش الذي يُدوِّخ الشعوب ويسجن كينياتا ويُلقي الرعب في مساحاتٍ شاسعة من أراضي المستعمرات وغير المستعمرات. إنهم حفنةٌ من الصبية، من الجيل الإنجليزي الجديد، شبانٌ صِغار يمضغون اللبان وتُحِس لهم بنعومة ورقَّة النساء. ما لهؤلاء وللصحراء وللرمال؟! جيلٌ جديد شقي بنفسه وبالظلم الذي يُدافع عنه دفاعَ الحق، وبالبترول الذي يموت من أجله ولا يهمه في قليلٍ أو كثير. لقد خُيَّل إليَّ أنه لو قُدِّر لفارسٍ عربي، على حِصانٍ حتى، أو برمح، أن يَخرُج عليهم من قلبِ الصحراء ويصرُخ فيهم، مجرَّد صراخ، لَولَّوا الأدبار.
اللهم إنها لَشماتة؛ فلقد عشنا حتى رأينا جيش الإمبراطورية بلا إمبراطورية أو هيلمان، بلا أَعلامٍ أو إطارٍ ضخمٍ يُحيط به، بلا شنَّة أو رنَّة أو اسمٍ يُدوِّي: جنود الملكة! فجنود الملكة ها هم نراهم عرايا لاهثِين مذعورِين، شُبانًا صغارًا يلهون بالسلاح بلا إحساسٍ بالسلاح، بل حتى برغبةٍ مُلِحَّة أن يُلقوه أو يبيعوه أو يُقايضوا عليه بمثلجات أو بقطع لبان.
ومع هذا فهناك بلاد لا تزال تتم فيها عملية التناسخ الاستعماري، وللإنجليزي فيها مندوبٌ سامٍ وسفراء فوق العادة وكأن كل شيءٍ لا يزال كما كان، والهيلمان هو الهيلمان. لقد انتهى الإنجليز أيها السادة وما ترونه ليس سِوى خيال المَقَاتة والميِّت الواقف وسليمان الذي لا تسنده سوى عصاه، وحتى عصاه انقَرضَت وسقط، من خمس سنوات، السَّقطةَ التي لا قِيامةَ له بعدها، والبركة في جمال عبد الناصر، والبركة في بورسعيد.
إني لِفرحي لا أكادُ أُصدِّق أن هذا كله حدث، وأننا نحن الذين أسقَطنا الإمبراطورية بِجرَّة معركةٍ واحدة، جثةً لا حَراكَ بها؛ فلَيسَت حركاتها الآن سوى حركاتِ مَيِّت، ليس مبعثها عودة الحياة إليها، ولكن مبعثها الشمس الساطعة اللافحة التي غَربَت عنها وأَشرقَت علينا، شمسٌ لا تملِك معها حتى وهي في ميتتها إلا أن تتمَلمَل وتتلظَّى.