الشعر والبوتاجاز
لِثالثِ مرةٍ أُعيد قراءة الديوان والديوان للشاعر العربي الكبير رغم سنه الصغير صلاح عبد الصبور، والديوان مطبوع في بيروت؛ لأن القاهرة لم يعُد بها دارُ نشرٍ واحدةٌ تقبل أن تُجازف بنشر الشعر. وكأن الناس في بلادنا لم يعودوا في حاجة إلى هذا اللون من ألوان الفن، ولكنها للأسف الحقيقة. في الخارج يضعون دواوين الشعراء جنبًا إلى جنب مع الأناجيل في كل بيت، وهنا تجد المنزل عامرًا باسم الله ما شاء الله بالصالون الذي لا يستعمله أحد، وبأدوات المائدة والمطبخ الأنيقة الغالية والصواني الفِضَّة، ولن تجد فيه كتابًا واحدًا عدا الكتب المدرسية التي يستخدمها الأولاد، بَلْه ديوان شعر. الناس هنا مشغولون بالمظهر، باللهث وراء الفريجيدير والبوتاجاز والتمتُّع بمباهج الحياة و«الفُرجة» على الأفلام وأنواع الفن التي لا تُكلِّف صاحبها مشقةً أكثر من مشقَّة الاستلقاء المُريح و«استقبال» النُّكتة، وربما لهذا لا أحد يُريد الشعر؛ فالشعر يُثير الشجن والفكر والخيال، وهي مناطقُ داخلية لا يراها أحد ولهذا لا يهتم أحد بسترها أو إضاءتها. هم جميعًا يهتمون بجلودهم الظاهرة يبحثون لها عن أكثر الجواربِ أناقة، أمَّا الرءوس والصدور والأعماق فما الحاجة إلى الإنفاق عليها، وعُريها في مجتمعنا لا يُعَد عَورةً ولا يَسخَر منه أحد.
وما أَكثرَ ما رأيتُ بعض هؤلاء الناس؛ اللاهثِين وراء الكرفتات الأنيقة والجوارب، ما أَكثرَ ما رأيتُهم إذا ابتعدوا عن الآخرين وانفردوا بأنفسهم ومكنون إحساسهم، حزانَى، واجمِين، لا حول لهم ولا قوة، أعماقُهم سوداء كظلام الليل لا يُضيئه شعاعٌ من نور، وأرواحُهم من الداخل عاجزةٌ عن أن ترى أو تتأمَّل أو تفكر. إنهم رجالٌ كبار، وسيداتٌ يرتدين أكثرَ الأزياء أناقة، ولكنهم من الداخل مُراهِقون وقاصرون من الداخل، أطفالٌ جهلةٌ لم يتعلموا حكمة الحياة ولا أَنضجَ نفوسهم فنٌّ أو ثقافة؛ ولهذا رغم كل المظهر العظيم والفريجيدير والبوتاجاز يظلُّون حزانى، حُزنَ الأعمى في عالمٍ يرى بالميكروسكوب والتلسكوب. ورغم الطعام الجيِّد والحَلْوى لا ينقشِع ما يُعشِّش في نفوسهم من ظلام؛ فهو ظلامٌ لا يَذهَبُ به إلا الفكر والشعر والتثقيف.
إن الشاعر لم يُوجد في المجتمع البشري عبثًا. لقد أوجدته الجماعة لِيكون لها قَرْن الاستشعار، لِيُنمِّي لديها الخيال، لِيقول ما يُصبح به الإنسان أَكثرَ إنسانية، ويُحيل به نوازع الحيوان إلى أرقى نوازع البشر، لِيُصبح به الرجل أقوى من كلِّ ما حوله، أقوى من العقبات والمشاكل، لِيُنغِّم خطوات القوم، ليَحدُو القافلة، لِيظل الركب ماضيًا في روعةٍ وانتصار.
إني أَقترِح على كل أولئك المَلهوفِين لتدبير القِسط وتجميل المطابخ بأدواتٍ حديثة، أقترح عليهم أن يغامروا مرةً ويقوموا بحماقةٍ بشرية لن تُكلِّفهم غَيرَ قروشٍ لا تُعادِل ثمن «طاسة» أو فَردَة جورب؛ مغامرةٍ يشتري فيها أحدهم ديوان شعر، أو كتابًا، أيَّ كتاب، يذهب إلى المكتبة، ويتفرج وينتقي، ثم يشتري كتابًا واحدًا فقط وحبذا لو كان دِيوان شِعر. إنِّي لواثقٌ أنه بعد قراءته سيُصبِح حتى من هذه الناحية، أَكثرَ قدرةً على الكسب وعلى شراء «الطاسة» وإكمال ثمن النجفة.
ولْيَعتبِر الصديق محمد بشير مدير شركة الإعلانات والأخ عبد الحميد حمروش أن ما سبق إعلانٌ سافرٌ عن الشِّعر وكتب الشِّعر؛ إذ ماذا أفعل وقد وصَلنا إلى حدٍّ أصبح من الواجب علينا فيه أن نُعلن عن الشِّعر وفوائد الشِّعر لِيقرأه الناس، حقيقة، ماذا نفعل؟!