فيلم الخرطوم
التفكير البريطاني الإمبراطوري كاليهودي الذي أفلس، يُراجِع دفاتره القديمة ويُحاول أن يستخرج منها أشياءَ يُمجِّد بها العظمة الغاربة التي كانت لا تغرُب عنها الشمس. إنهم يُحاولون اليوم أن يصنعوا من أعمدة الاستعمار الكبرى، تلك التي على أكتافها امتد العُدوان البريطاني بالمكر والخبث والخديعة ويجعلوا منها نماذجَ لأبطالٍ خُرافيِّين. هكذا صنعوا بلورنس، ومن ضابطٍ أَجيرٍ في المخابرات البريطانية أحالوه إلى محبٍّ مُتدلِّه في الصحراء، وصاحبِ رسالة، وباعثٍ للثورة العربية ومُناضلٍ من أجلها. هكذا أرادوا من فيلم لورنس أن يقولوا إن الثورة العربية ربما كالجامعة العربية، أصلُها بريطاني وإن الإنجليز أصحابها، وبالتالي أصحابُ الولاية عليها وعلى عروشها وملوكها من بعيد. في فيلم الخرطوم الذي رأيته بإحدى دور السينما في شيكاجو أَحسَستُ باشمئزازٍ لم أُحِسَّ بمثله في حياتي، وأنا أرى العقول النتِنة تُحاوِل بعد أن زالت عن الإمبراطورية أنيابها، تُحاول بالكهن والخبث والفن أن تخدع العالم العالمي عن حقيقتها وبواعثها؛ فالفيلم يبدأ بثورة المهدي.
والمشكلة أنهم لم يُصوِّروا هذه الثورة على أنها ثورةٌ وطنيةٌ سودانية مثلًا اتخذَت شكل الهلوسة الدينية، وأنها لا تمت إلى حقيقة رسالة الإسلام، ولكنهم صوَّروها على أنها ثورةٌ إسلامية وكأنها من عمل العقيدة الإسلامية، وأن أحلام المهدي بإقامة مذبحةٍ في الخرطوم هو لإعلاء شأن الدين. المُهم أنهم صوَّروا غوردون باشا، في الناحية المُقابِلة، مسيحيًّا يقرأ الإنجيل ومؤمنًا إلى أقصى حد بالحضارة المسيحية الغربية، إيمانًا دفعه لأن يذهب وحيدًا أو يكاد لإنقاذ المصريِّين الذين كان المهدي يُهدِّد بذبحهم جميعًا لتخويف القاهرة وإستامبول والعالم الإسلامي بأسره كي يركع له ويخضع، وهكذا «استُشهد» غوردون باشا دفاعًا عن مَسيحيَّته التي أرادت أن تقف في وجه الهمجية المهدية «الإسلامية»، وأرادت أن تَحمِي المصريين من الذبح والتمثيل، في حين أن مذبحة الخرطوم لم تحدُث إلا بغباء غوردون باشا وسخافة تصرُّفه. إنه المسئول الأول عن المذبحة وليس ضحيتها أبدًا كما صوَّره لنا التاريخ الذي درسناه، والذي للأسف لا يزال يُدرَّس؛ فهذا التاريخ قد كتبه مُؤرِّخون بريطانيون نفس المُؤرِّخِين الذين سموا ثورة عرابي «هوجة» واعتبروا أن ما قام به الجيش البريطاني كان إنقاذًا لعرش مصر وللسلطان وللمصريِّين وللنظام العام.
لقد أَحسَستُ بعد مشاهدتي للفيلم أننا نواجه ليس فقط أعداءً عسكريِّين وسياسيِّين، ولكنا نواجه أيضًا أعداءً فنيِّين وفنانِين خَطرُهم لا يقل عن خطر الأعداء العسكريِّين والسياسيِّين، وأن عداءهم لنا لن يهدأ أبدًا ولن يَقرَّ لهم قرار، وأن السويس ليست نزوةً من إيدن إنما السويس كانت التعبير المفتوح عن العُنجُهية الاستعمارية الإنجليزية، وأنها إذا كانت قد كُشفَت وهُزمَت فإنها أبدًا لم تَختفِ ولا تزال تظهر، ليس فقط في عدن وإمارات الخليج وإنما حتى في التاريخ وحتى في الأعمال الفنية.
المؤسف حقًّا أن هذا الفيلم صُوِّر معظمه في مصر، وأن قواتٍ من الجيش المصري هي التي اعتمد عليها مُخرجه في كل المعارك التي دارت في الفيلم. اللهم إذا كان هذا هو الطريق للحصول على عملةٍ صعبة، اللهم إذا كان الثمن أن نَطعَن على الملأ وعلى المستوى العالمي ليس فقط أنفسَنا كثورة وإنما أنفسنا كحضارةٍ وكشعبٍ وكمسلمِين، فبِئسَه من ثمن، وبئس ما نفعل حين نترك عقولًا لم تَتخلَّ بعدٌ عن تفكيرها الصليبي تجاهنا، تتولى، وبمساعدةٍ منا وترحيبٍ؛ تاريخَ حياتنا.