سيد درويش
والظاهر أن حديث السينما سيَسرِقنا؛ فلقد رأيتُ في الإسكندرية فيلم سيد درويش والحق أنه كان مفاجأةً لي؛ فبعد سكوته الطويل جاء أحمد بدرخان ليُقدِّم لنا قصةً جيدةً معروضة بأبسطِ وأحسنِ ما تُعرض به قصةٌ من هذا النوع؛ فطَوال العرض لا تَتملَّكك لحظةُ مللٍ واحدة وإنما يشُدُّك إلى القصة والأحداث راوٍ سينمائيٌّ كبير يعرف بالضبط ماذا يريد، ويعرف أكثر كيف يفعل. والحق أيضًا أن كرم مطاوع، وهذه أَوَّل مرةٍ أراه يُمثِّل فيها، كان مُوفَّقًا إلى أبعد حدٍّ في تقمُّصه لِشخصيةٍ معقدة كشخصية سيد درويش. وأَروعُ ما استطاع السيناريو أن يُحقِّقه هو قصة الحب بين سيد درويش وجليلة. تلك التي قامت بها الممثلة القديرة حقًّا هند رستم. كل ما آخُذُه على الفيلم أنه جاء كالأفلام التسجيلية إلى حدٍّ ما واكتفى بالقصة الخارجية لحياة سيد درويش، وقد كُنتُ أطمع في فيلمٍ يتعرض لحياة سيد درويش أن يُجسِّد لي أزمة ذلك الفنان العظيم، الذي قام لِيُغيِّر من وجه الموسيقى في عصره، ما هي التناقضاتُ الخطيرة التي كانت تدفَعُه لنسيان نفسه والدنيا؟ كيف كانت أزماتُه وكيف كان يُخلق من خلال أزماته تلك؟ لقد صوَّر لنا الفيلم وكأن النجاح كان ينتظر سيد درويش على عتبة الباب، في حين أن قصةَ كفاحِه من أجل أن يُغنِّي ويُؤلِّف ويُغنِّي معه الشعب تستحق وحدها فيلمًا بأكمله. حقيقةً كنتُ أُحب لفيلمٍ جيد كهذا الفيلم أن يغوص قليلًا في أعماق الفنان مثلما صوَّره لنا من خارجه، ولا يغوص إلى نفسه فقط وإنما إلى عَصرِه أيضًا فيُقدِّم «عصر» سيد درويش وطبيعةَ نماذجِ ذلك العصر وأفراحه وتعاسته، ويُرينا كيف تفاعل سيد درويش مع عصره ليخرج لنا بتلك النتيجة المذهلة: موسيقى لا تزالُ إلى الآن أحدثَ بكثيرٍ من كثيرٍ مما نسمعه، إلى درجة أني أقترح على شركات الأُسطوانات لدينا أن تطبع وبكمياتٍ ضخمةٍ كل الأغاني المشهورة التي سمعها الناس في الفيلم، والتي لم يسمعوها؛ فالفيلم أيضًا لم يتعرض لتطوُّر سيد درويش الموسيقي، ولم يُقدِّم لنا أحجار الزاوية في هذا التطوُّر. أمَّا اقتراحي الأخير فهو أن يقوم إسماعيل شبانة بصوته القوي الجميل بتسجيل هذه الأغاني كلها. إنه حينئذٍ يكون قد قدم للموسيقى العربية خدمةً لا تُنسى. وأعتقد أنه لكي يحدُث هذا كله لا بد من تأميم سيد درويش، ومن شراء حق كل أغانيه من عائلته ومكافأتهم بسخاء؛ فيكفي أنهم أولاد هذا الفنان العملاق لِنُحلَّهم من أنفسنا مكانًا رَحبًا طيبًا. إنها أقل التحية نُوجِّهها لمؤسِّس موسيقانا الحديثة في ذِكراه بمثل ما كان فيلم سيد درويش بدايةَ تعريفٍ على النطاق الشعبي بهذا القائد الموسيقي الخلَّاق.