عنتر وجولييت
أوقعني كتاب فننانا الكبير يحيى حقي في حَيرةٍ شديدة؛ فلقد أغلقتُ الكتاب بعد قراءته وظلَلتُ في حالة تفكيرٍ مستمر أتساءل عن دور الكاتب وماهية القصة والحد الفاصل بين الفن والحياة والقبح والجمال. إن يحيى حقي ليس كاتبًا سهلًا يقول لك حقائقَ سهلةً بوجهةِ نظرٍ محددةٍ ويريحك. لقد شقِيتُ وأنا أقرؤه بمقدارِ ما سعِدتُ، ودُخت بمقدارِ ما اهتدَيتُ، وحاولتُ أن أبحث بين السطور عن يده البيضاء الصغيرة تَهديني، وكلما أوشكتُ أن أمسك بها أجده قد أشاحَ عني في حركةٍ ماكرة، وابتسامة أبٍ طيِّب يُريد أن يُعلِّم أولاده الحياة، ويقول: أتُحِب الخلاص بهذه السُّهولة؟ جرِّب وذُق وتعلَّمْ وقاسِ. وإذا أردتَ الخلاص فلا تنشُده عندي، أَوجِده بنفسك، وعلى نَفسِك اعتمد.
إيهِ أيها الفنان الغامض الابتسامة، ماذا فينا يعجبك، وماذا فينا تُخرِج له لسانك المُؤدَّب، وماذا في حياتنا يثيرك ويجعلك تستعمل هذه الطاقة الخارقة من الدهاء الفني لكي تُخفِيه، ولكي تَسخرَ فتُحسَّ بسخريتك لا تضحك فتعقبها بدمعةٍ حزينةٍ سريعة تجعلنا ندمع، وتَقلِب فرحنا مأتمًا؟ أيَّ مكان تحت الشمس تختار، وحين تغوص لماذا تغوص، وما الحكمة التي تستخرجها وتضعها بعيدًا لنا، في جزيرةٍ نائية، لكيلا يظفر بها إلا الجسور؟ حَيَّرتني يا رجل.
أأنت عالم فنٍّ أم فنان عالم؟ هل هدفك أن تخلق جمالًا لا تجده، أم أنت قاضي حياةٍ تنقد، وتُصدِر حكمًا لا تُعلنه وتُبقيه لآخر جلسة قد تنتهي أعمارنا قبل نهايتها؟ بينما أنت ماضٍ في تأمُّل المتقاضِين تراقب الدنيا بأكثر من عين، ولك أكثر من فؤاد، وللحزن عندك رنَّة فرح، وللأفراح عندك مرارة الأحزان، والحياة سرك، كالمِقطَف المقلوب يتشقلب تحته الناس، ويُولدون، وأحيانًا ترتفع صرخة: فلان مات، صرخةٌ واحدة فقط؛ إذ البلياتشو يخرج بعدها ليُطلِق ضحكة، ضحكةً واحدة فقط، يعود بعدها كل ما في السرك إلى ما كان عليه؟!
يحيى حقي هنا لا يُريد أن يحكي لنا. هو يحكي عنا. ويتأمَّلنا، وكل أملي ألا يكون يتأمَّلنا من خلف منظارٍ ما؛ فهو نفسُه يصف — بروعة — شعور من يضع النظارات، فيقول:
«ستبدو لك الأشياء كأنما انتُزِعَت من عالمها واقتُلِعَت من جذورها وفقَدَت عُصارتَها، وأصبَحَت مصاصًا تُشاهده كزائر مُتحفٍ للنماذج المصنوعة تقليدًا مُكبرًا أو مصغرًا لما خَلق الله.»
إني خائفٌ أن يكون الأمر كذلك، خائفٌ أن يكون يحيى حقي قد بدأ يرانا على ما نحن عليه، على حقيقتنا؛ فحتى لو كانت لنظرته كل صلابة الحقيقة ونفاذها، فالإنسان لم يبتكر الفن إلا ليقيم الحقيقة الثانية، إلا ليضع البُعد الآخر للواقع؛ إذ لو كان للواقع بعده الواحد المحدود الذي نراه لما احتمله الناس ولاستعذبوا الموت من زمن. فإذا كان الواقع هو الحقيقة الموجودة رغم أنف الإنسان، فالفن هو الحقيقة التي يُوجِدها الإنسان بنفسه ليصبح بها أقوى من الحقيقة الموجودة برغمه!
يا فنانَنا الكبير، إني لِفَرطِ حبي لك والإعجاب بك، أختلف هذه المرة معك.