أمريكي يتساءل: هل عندنا حرية؟
تلقَّيتُ هذا الأسبوع رسالةً ضخمة من أمريكا، حين فضَضتُها وجدتُ أنها من أستاذٍ جامعيٍّ كبيرٍ مهتم بأمور الشرق الأوسط، كنت قد قابلتُه هناك، وجرت بيننا مناقشاتٌ بلغت درجة الحدة في أحيان. الرسالة وجدتُها تعليقًا وردًّا على الانطباعات القليلة التي نشرتُها عن الولايات المتحدة لدى عودتي، وأُخفِّف من الواقع كثيرًا حين أقول إنها «تعليق» أو «رد» فالحقيقة أنها رسالةٌ غاضبة، تنقُد بشدةٍ ما كتَبتُ ويَلومُني صاحبها لومًا كثيرًا باعتبار أني في رأيه قد تجنَّيتُ على الحقيقة، وتحاملتُ على الأوضاع هناك تحامُلًا مُتحيزًا.
وكم كان بِوُدِّي أن أنشُر رسالة هذا المُثقَّف الأمريكي الكبير وأضعها أمام القارئ العربي تمهيدًا للرد عليها، أنشرها لا لشيءٍ إلا لكي أثبت لهذا الأستاذ الجامعي أن لدينا حريةً واسعة للنشر، وأننا لا نضيق بالنقد ولا بالهجوم، لولا أن الرسالة طويلة والحيز المُخصَّص لي لا يسمح، ولكني سأختار فِقرةً من خطابه، تلك التي يعتقد أني لا أجرؤ على مُجرَّد عرضها على الرأي العام العربي، والتي يقول فيها: لقد تظاهر الطلبة والأساتذة في الجامعة التي أعمَل بها ضد «العمل الأمريكي» في فيتنام ولكني أعتقد أنه لا الطلبة عندكم ولا الأساتذة يستطيعون أن يقوموا بنفس الشيء تجاه المَوقِف في اليمن. وفي نيويورك هاجم عددٌ من الناس الرئيس جونسون، فهل يستطيع المصريون أن يهاجموا رئيس دولتهم؟
ويُورِد الأستاذ الأمريكي هذا التحدِّي في مجال نقده لما كتبته باعتبار أني صورَّتُ المجتمع الأمريكي في صورةٍ بالغة السواد، تملُّقًا أو إرضاءً للاتجاه السائد في شرقنا العربي في الهجوم على أمريكا، وباعتبار أني لا أستطيع إلا أن أخضع لوجهة النظر المُسبَقة هذه فيما أكتب. ويستطرد قائلًا: إني لا أزعم أن الولايات المتحدة خالية من العيوب، ولكني أقول إننا نختلف عنكم في أننا لا نُخفِي عيوبنا عن أنفسنا، ونُناقِشها بمطلق الحرية، وهذا هو الضمان الوحيد لحل كل مشاكلنا وإصلاح كل عيوبنا.
حسنٌ إذن، هذا الأستاذ الجامعي يعتقد، مثلُه في هذا مثلُ بعض مبعوثِينا والداعِين منا إلى النظام البرلماني الحر، أن المقياس الوحيد لانتشار الحرية في بلدٍ ما، هو قدرة الجماهير في هذا البلد أو الأفراد على نقد رؤساء حكوماتهم أو الأوضاع السياسية فيها. وبصرف النظر عن أن الحرية الحقيقية أو الديمقراطية الحقيقية بعيدةٌ كل البُعد عن هذا المقياس السطحي التافه لمفهوم الحرية، ولكني حتى في هذا كنتُ دائمًا أرُدُّ على كل هؤلاء الذين كانوا يناقشونني بشدة عن الأوضاع في بلدنا، مُحاولِين إحراجي بقولهم إن المواطن منا ممنوعٌ من قول رأيه ولا يستطيع أو يملك حق التعبير عنه، كنت أَردُّ عليهم بقولي إن هذا غير صحيح، وإن نقد الحكومة في مصر يجري علنًا.
إن كمية النقد التي نقرؤها في جرائدنا ومجلاتنا ومسرحياتنا وقصصنا للمسئولين عندنا ولكافة أوجه الحياة، لا يُوجَد مثلها في أية صحافة من صحف العالم وكل ما في الأمر أنها جزءٌ من الإشاعات التي تُشاع عنا في الخارج والتي تُحاوِل تصوير الأوضاع هنا تصويرًا ظالمًا بعيدًا عن الحقيقة. وكدليلٍ عمليٍّ أُقدِّمه لهذا الأستاذ وللكثيرِين غيره، ها أنا ذا أنشر تلك الفِقرة من رسالته، أنشرها بحريةٍ تامة كما يرى، وبلا رقابةٍ إذ لا تُوجَد رقابةٌ على صُحفنا.
إن الكاتب يتساءل: هل تستطيع الجماهير في مصر أن تهاجم رئيس الدولة لو أرادت؛ إذ الجماهير في الولايات المتحدة «قلعة الحرية والديمقراطية» تهاجم جونسون وسياسته؟ متخذًا من هذا دليلًا على أن الجماهير في مصر مُقيَّدةُ الحرية، وأن الجماهير في أمريكا مُطلَقة الحرية.
ألف باء الحرية
إن الأستاذ الأمريكي في هذا يتجاهل ألف باء القضية، وألف باء قضية الحرية ليس هو قدرة الشخص أن يقف في هايد بارك أو واشنجطن سكوير ويهاجم الملكة أو الرئيس جونسون، ولكن المشكلة هي في فعالية الرأي حين يُعبَّر عنه، وقدرة هذا الرأي على أن يُوضَع موضع التنفيذ. إن زاوية هايد بارك في لندن هي جزء من العرض السياحي الذي تهتم به بلدية لندن باعتبارها مكانًا «يتفرج» فيه الناس على نماذجَ لحرية الرأي، ولكن، هل لَعِبَت هايدبارك أو خطباؤها دورًا ما في تغيير دفَّة السياسة البريطانية؟ هل أمكن لحرية القول هذه أن تتحول في يوم إلى قوةٍ سياسيةٍ حقيقية؟ لم يحدُث مطلقًا فالآلة البريطانية الاستعمارية تتحرك دومًا في إطار المصالح الاستعمارية البريطانية دون أن تعبأ لِلَحظةٍ بِهَبْهَبةِ خُطباء هايد بارك. والحرية الأمريكية أكذوبةٌ بدليل أنه رغم تمتع الشعب حسب نصِّ الدستور بحقِّه في قول رأيه والتعبير عنه، فإن هذا الرأي والحقَّ لا أَثَر لهما مُطلقًا على السياسة الأمريكية؛ فلو كانت الحرية في المجتمع الأمريكي حريةً حقيقيةً لتَوقَّفَت الحرب في فيتنام؛ فأغلبية الشعب الأمريكي ضد الحرب الفيتنامية. ومع هذا، ومع الأصوات الكثيرة التي تُنادِي صباحَ مساءَ وتُطالب بإيقاف الحرب فالحرب مستمرة، والآلة الاستعمارية الأمريكية ماضيةٌ في طريقها تضرب فيتنام الشمالية وتَقذف بمئات الآلاف من الشبان الأبرياء إلى أتُون الحرب دون أن تَحفِل قِيدَ شعرةٍ برأي الشعب الأمريكي.
إن مهاجمة الشعب الأمريكي لجونسون وسياسته ليست — كما يريدنا الأستاذ الأمريكي أن نعتقد — دليلًا على تمتُّع الشعب الأمريكي بالحرية، ولكنها دليل على خطأ السياسة الأمريكية.
وإن عدم مهاجمة الشعب المصري لرئيس الدولة ولسياسته ليس سببه أبدًا أن الشعب ممنوع من حقه في إبداء رأيه، ولكنه ببساطة دليل على أن الشعب المصري يُوافِق ويُؤيِّد الرئيس عبد الناصر في سياسته. إن بقاء الثورة المصرية خمسة عشر عامًا في الحكم ليس دليلًا على أن هذه الثورة تَفرِض وُجودَها بالقوة وتَسحَق معارضيها، ولكنه دليلٌ على رضاء الشعب عن هذه الثورة وتأييدِه المطلق لها والتفافِه حولها. إن الغريب أن العقلية الغربية تتصوَّر أن الثورة المصرية ليست إلا آراء الرئيس عبد الناصر وحده، وهي لا تستطيع أن تفهم أن عبد الناصر ليس إلا مُنفذًا لإرادة الشعب المصري، وأن هذا الشعب ليس «خاضعًا» للثورة إنما هو «صانع» لها. إن الجماهير في القاهرة ليست «ممنوعة» من التظاهُر أو من إبداء الرأي ولكن لأنها بِمُطلَق حريتها تلتَف حول عبد الناصر وتُؤازِره، وليست مستعدةً لتأييده فقط ولكنها مَستعدةٌ أن تخوض تحت قيادته معركةَ الحياة والموت نفسَها.
لماذا لا نتظاهر في القاهرة ضد اليمن
والجماهير في القاهرة لا تتظاهر ضد الحرب في اليمن؛ لأن الحرب في اليمن ليست بالنسبة إلينا كالحرب في فيتنام بالنسبة للجماهير الأمريكية. إن الجيش المصري في اليمن ليس كالجيش الأمريكي في فيتنام؛ إذ الحقيقة عكس هذا تمامًا؛ فالجيش المصري في اليمن وضعه كوضع قوات الفيتكونج تمامًا؛ فالفيتكونج تكافح التدخل الأمريكي في فيتنام، والجيش المصري يكافح أيضًا التدخُّل السعودي الملكي الإمامي الرجعي في اليمن، وحيث إن الولايات المتحدة هي التي تبيع الأسلحة لفيصل وتُؤيِّده وتُرسِل له الخُبراء والمُستشارِين، فنحن في اليمن نُكافِح أيضًا التدخُّل الأمريكي المُلثَّم بِلثامٍ سعودي. إن أمريكا في فيتنام تناصر الرجعية وحكم الجنرالات وتُعادي الشعب الفيتنامي وتَسحَق مدارسه ومصانعه ومُنشَآته، وأمريكا في اليمن أيضًا تقوم بنفس الدَّور فتتحالف مع القوى الرجعية ضد قوى الشعب والتقدُّم. وصحيحٌ أن أعباء الشعب الفيتنامي تُثقِل كاهل شعبنا المصري، مثلما تُثقِل الحرب في فيتنام كاهل الشعب الفيتنامي، ولكن كما يحتمل الشعب في شمال فيتنام ضريبة الحرية بصبرٍ وشجاعة، فكذلك يحتمل الشعب هنا أعباءه وتضحياتِه بنفس الصبر والشجاعة، وفي القاهرة لا تَشهَد مظاهرات ضد جيشنا في اليمن تمامًا مثلما لا يمكن أن تشهد في فيتنام الشمالية مظاهراتٍ ضد مشاركة الشعب هناك والحكومة لشعب فيتنام الجنوبية؛ فنحن مثلهم «ندافع» عن وجودنا ضد «تدخُّلٍ» أجنبيٍّ رجعيٍّ استعماري.
إن العالم لم يغضب حين دخلت أمريكا الحرب ضد النازية، بالعكس كان يشيد بها ويُؤيِّدها، ولكن العالم يغضب ويحتج على أمريكا حين تتدخل هذه المرة لفرض ما هو أَبشعُ من النازية. إن الأستاذ الأمريكي يقول في رسالته إن أمريكا تُدافع عن «سلام العالم» وأمنه، تُدافع عن «الحرية»، أو بمعنًى أَوضحَ تُدافع عن المصالح الأمريكية في فيتنام، ولكن إذا كان العالم كله، حتى نفس جماهير الشعب الأمريكي، ترى أن هذه أكذوبة؛ إذ ليست هناك أية مصالحَ أمريكيةٍ مهددةٍ في فيتنام، ولم يحدث أن حاولَت فيتنام الشمالية أو حاولت الصين الهجوم على أمريكا أو مصالحها بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ كانت أغلبية الشعب الأمريكي تعتقد أن ما يحدث في فيتنام ليس دفاعًا عن أمريكا وإنما هو مغامرةٌ خبيثة.
إذا كان الشعب الأمريكي نفسه يرى هذا، ورغم الديمقراطية والحرية فإن العملية قائمةٌ ومستمرةٌ وماضية بأقصى قوتها، أليس في هذا دليلٌ ما بعده دليلٌ على إفلاس الديمقراطية الأمريكية وعلى أنه حتى مفهوم الحرية الرأسمالية قد تولى الرأسماليون أنفسهم تمزيقه وسلب كل مُحتواه بحيث أصبح كلمةً جوفاء؟
نفس هؤلاء الرأسماليِّين الذين حين بدأ رئيس الولايات المتحدة يُحاول الخروج بالشعب من رِبقَة سيطرتهم، يُحاول أن يكون منفذًا لإرادة الشعب الأمريكي الحقيقية، يُحاول أن يعيد المضمون إلى الحرية والديمقراطية قتلوه، عيني عينك، وفي عِزِّ الظهر وكأننا في غابة.
إن المقياس الوحيد للحرية في أي بلد هو: إرادة مَن التي تُسيِّر دفة الحكم، أهي إرادة الشعب الحقيقية أم إرادة طبقةٍ ما أو فئةٍ ما من الفئات؟ فواضحٌ أن إرادة الشعب الأمريكي ليست هي الإرادة التي تَحكُم أمريكا، فإذا تظاهر الناس ضد هذا الحكم فليس معناه أن الإرادة الشعبية مُعطِّلة لمصلحة فئةٍ قليلةٍ من الناس، وإذا لم يتظاهر الناس في القاهرة ضد حكومتهم فليس معناه أن الجمهور مسلوب الحق في التظاهُر ولكن معناه أن الناس تُؤيِّد، من قلبها وبمطلق إرادتها سياسة حكومتها.
إن الحرية في أمريكا وفي غيرها من البلاد الرأسمالية بلا فاعلية، حرية للفرجة، تجدها على صفحات الجرائد وفي الميادين العامة، أمَّا الحرية عندنا فحريةٌ حقيقية؛ إذ تجدها منعكسةً انعكاسًا حقيقيًّا على سياسة بلادنا وأوضاعها، وحكومتنا لا تفعل أكثر من أنها تُنفِّذ وتنظم هذه الإرادة الشعبية. وإني لأتحدَّى كل المُعلِّقِين السياسيِّين الغَربيِّين أن يذكروا لي عملًا واحدًا قامت به الحكومة ضد إرادة شعبنا أو بمعنًى أصحَّ ضد إرادة غالبيته.