إلى أين أيها السادة؟!
طَوال الشهور الماضية وأنا أُقابل أُدباء وكتابًا وفانِين شكواهم الوحيدة أن باب النشر مُوصَد أمامهم، وأنهم بعد تاريخٍ طويلٍ في التأليف وإصدار الكتب لا يجدون اليوم ناشرًا يقبل أن يخرج لهم كتابًا. أَخذتُها كظواهرَ فرديةٍ أول الأمر، ولكني شيئًا فشيئًا بدأتُ أُدرِك أنها ظاهرةٌ عامة.
ولم أبدأ أوقن بخطورة الوضع إلا حين التقيتُ بأكثرَ من كاتبٍ من الكُتاب الذين لم أكن أتصور بعد كل ما بلغوه من شهرة ومكانة أن يُصابوا بأزمة نشر، فإذا بهم هم الآخرون يعانون من نفس المشكلة؛ الناشرون يرفضون طبع كتبهم، وإذا تنازل أحدهم وقبل يشترط على الكاتب منهم ألَّا يحصل على أجرٍ للكتاب، بل أحيانًا يشترط أن يدفع المؤلف له «لا أن يأخذ» مبلغًا من المال مُقدَّمًا حتى يقبل إصدار كتابٍ له، بل الحال قد وصل إلى أنك لو تلتف حولك لوجَدتَ كثيرًا من الكتب التي كانت تصدر بانتظامٍ قد اختفت تمامًا، والبعض الآخر في طريقه إلى الزوال.
ظاهرةٌ غريبةٌ خطيرة كان مفروضًا أن تسترعي انتباه الهيئات التي أُنشِئَت لرعاية الثقافة والتأليف، ولكنها لم تفعل. أكثر من هذا تُدهَش، بل تكاد تُصعَق، إذا علِمتَ أن هذه الهيئات نفسها هي السبب في الأزمة الخانقة، هي التي أَوقفَت النشر وجعلت الكتب المُؤلَّفة تكاد تختفي من حياتنا. أمَّا كيف هي السبب فالمسألة بسيطة. لقد فَهِمَت هذه الهيئات في وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والإرشاد أن الطريق إلى رعاية الثقافة والفكر وتشجيعها هو الدخول في حركةِ تنافُسٍ ضخمةٍ من أجل ترجمة الكتب الثقافية المختلفة ونقلها عن اللغات الأجنبية وبيعها بقروشٍ زهيدة، وهي من أجل هذا تَتفِق مع الناشرِين وتُغدِق عليهم الأرباحَ وتتحمل هي فروقَ السعر.
وأكثر من هيئةٍ تتنافس حول هذا الهدف؛ مشروع الألف كتاب، إدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم، إدارة الثقافة بوزارة الإرشاد، سلسلة الكتب الثقافية، دار النشر القومية، سلسلة رواياتٍ عالمية، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. والله أعلم ماذا من هيئاتٍ وإداراتٍ أيضًا، كلٌّ منها يُنافس الآخر في خفض سعر الكتب والنقل عن اللغات الأجنبية كيفما اتفَق وفي التباهي بعدد الكتب التي تُصدِرها.
شيءٌ جميل أن ننفق أموال الشعب على ترجمة الكتب وبيعِها له بأسعارٍ زهيدة، أمَّا أن نفعل هذا بطريقةٍ تُحيل الناشرِين إلى مُتعهِّدِي نَشْر المُترجَمات، بطريقةٍ تدفعهم إلى الانصراف كُليةً عن نشر الكتب العربية المُؤلَّفة، فنَشرُ أمثال هذه الكتب يُعَد حماقة؛ فسعرها يُصبِح مرتفعًا جدًّا بالقياس إلى أسعار الكتب التي تُصدِرها هذه الهيئات، والربحُ فيها غير مضمونٍ لأن الناشر هنا يُغامِر بنقوده هو، بينما حين تُكلِّفه هذه الهيئة أو تلك، تدفع هي له التكاليف والأرباح.
بالاختصار. النتيجة الحتمية هي الوضع الخطير الذي آلت إليه الأمور، هي انتشارُ الكتب المُترجَمة وموتُ حركة التأليف وقتلُها ووَأدُ الكتب المُعَدَّة للطبع في أدراج مكاتبِ أصحابها؛ النتيجة إغلاقُ أبواب القاهرة أمام المُؤلِّف في جمهوريتنا ودَفعُه دفعًا إلى الناشرِين في بيروت حيث المجالُ لا يزال مفتوحًا لنشر الكتب المُؤلَّفة.
لا أعرف إذا كان المسئولون عن هذه الهيئات قد وضَعوا في اعتبارهم تلك النتيجة وهم يرسمون خطَّتهم لإغراق السوق بالكتب المُترجَمة الرخيصة، أم فاتهم هذا، ولكن ما أعلمه أن الوضع الذي خَلقَته هذه السياسة وضعٌ لا يمكن السكوت عليه. إن ترجمة فروع الثقافة المختلفة وجعلها في مُتناوَل القارئ العربي عملٌ جليلٌ ما في ذلك شكٌّ، ولكنَّ قَتْل الكتاب العربي المُؤلَّف بهذه الطريقة عملٌ مشينٌ ما في ذلك شكٌّ أيضًا.
لقد ظلَّت القاهرة عاصمةَ التأليف ولا نُريدها أن تتحول إلى عاصمةٍ للترجمة. إنه لأَمرٌ مُحيِّر ومُخجِلٌ معًا أن تُصبح كل دواوين شعرنا ورواياتنا ومجموعات قصصنا وكتبنا للنقد والدراسات والأبحاث تَصدُر عن بيروت. ويحدُث هذا في وقتٍ تُولي ثورتُنا فيه الأدب والتأليف عِنايتَها الكبرى، وتُنشِئ من أجل هذا الغرض المجالس والوزارات. أتكون نتيجة المجالس والوزارات هذا التضييق على حركة التأليف؟
بربكم، قولوا لي أيها السادة: ماذا نفعل؟ ماذا يفعل كاتبنا، أيُّ كاتب، وهو إذا حاول الظهور وجد مجالاتِ الظهور يحكمها هذا الوضع، وإذا حاول قول الشعر وجد المجلس الأعلى للآداب، ولجنة الشعر به وسكرتيرها الأستاذ العقاد، لا يعترفون به أو بشعره؟ وإذا أَلَّف مسرحيةً جاءوا له بعزيز أباظة مسئولًا عن المسرح في المجلس، وعن ظهورِ المسرحياتِ في الفرقة القومية، لِيُلقي مسرحيةً باسم اللغة تارة، وباسم الأدب الرفيع تارةً أخرى؟
ماذا يفعل كاتبنا؟ أيُّ كاتب، ولجان الكتابة والأدب محرَّمة عليه، ومؤتمرات الكُتاب حضورها قاصرٌ على مُوظَّفِي المجالس والهيئات، والجوائز واللجان والمؤتمرات، وكل شيءٍ يتعلق بالأدب ممنوع على الأديبِ المنتج الحق، ممنوحٌ بسخاء لكل من عداه؟ ماذا يفعل الكاتب، وكل هذه الهيئات التي أُقيمَت لِتُساعِده وتدفعه لا تفعل إلا أن تقِفَ في وجهه؟ ماذا يفعل كاتبنا، أيُّ كاتب، والرعاية قد وَصلَت إلى حدِّ كتابه تحول بينه وبين الظهور؟
بالله عليكم، ماذا يصنع كاتبنا؛ أيُّ كاتب؟!