لغز صلاح جاهين
حاوَلتُ خلال الأسبوع الماضي أن أَحُلَّ لغز صلاح جاهين. عشت مع أبعاده الثلاثة: الرسام والشاعر والممثل، وبرغم ما كتبَه هو في صباح الخير وحاول فيه أن يبذر بذور الخلاف بين أشخاصه الثلاثة، وبرغم مُحاوَلات المقارنة وإيجاد أشكال التناقُض بين شعر صلاح ورسومه، فالحقيقة أني بعد دراسةٍ وتأمُّل وجَدتُ أن مواهب صلاح المُثلَّثة تتعقد وتتشابك بطريقةٍ تُدرِك معها أنها كلٌّ واحدٌ متماسك.
وأنت لا يمكنك أن تحُلَّ لغز صلاح إلا إذا شاهدتَه وهو يمثل؛ فشخصه — بكتلته الحية — بانفعالاته حين تنتقل إليك دون مانعٍ أو وساطة، يُعطيك صلاح مفتاح شخصيته وسر موهبته. إنك حين تقرأ شعره وتتأمَّل رسومه، تُحِسُّ أن كلماتِه وخُطوطَه مُحملةٌ بشحناتٍ تعبيريةٍ تتعدَّى حدود الشعر بمفرده أو الرسم بمفرده. إن شعره ليس مجرد شعر، ورسومه ليست مجرد رسوم، إنك تُحِس بهذه أو تلك جزءًا من كل، والكُل لا تُحِسُّه إلا إذا أعطاه لك صلاحٌ بكُله، وهو يعُطيك إيَّاه إذا مثَّل.
إن شعر صلاح لا يتكامل إلا إذا أنشده أمامك، وكأنه أدوار يكتبها لنفسه ليعتمد على نصفها في التعبير عن معانيها تعبيرًا كاملًا حين يُمثِّلها. ويُخيَّل إليَّ أنه لم يَخترِ الكاريكاتير عبثًا، فهو فن الرسم الكوميدي أو فن الكوميديا المرسوم، والتشبيهاتُ الجسدِية الكثيرة في شعره ليست نزعة إلى «التجسُّد» بقدر ما هي نَزعةٌ إلى «التمثيل»؛ فهو في شعره أيضًا يُعبِّر، وكأنه على خشبةِ مَسرحٍ بالجسد.
وصلاحٌ في تمثيله ليس ممثلًا فقط، ولكنه مُؤلِّفُ تمثيل، وهدفه ضخمٌ كبيرٌ كأهداف مُؤلِّفي التمثيل الكبار. إنه يهدف إلى تمثيل عصرنا والتعبير عنه؛ إذ هو في موهبته الضخمة الشاعرة الرسامة الممثلة فنانٌ معاصرٌ بكل مضمون الكلمة ومعناها، أكاد — حين أستعرض عصرنا وبيئتنا — لا أجد من يُضارِعه لكي يُعبِّر عن كُلِّ بساطتنا الحاضرة المُعقَّدة وكلِّ عُقَدنا البسيطة، ومَرحِنا الخفي وحُزننا الظاهر، وظاهرنا المَرح وأعماقنا الحزينة، وكل سُخريتنا بعصرنا وسُخرية عصرنا بنا.
وكالكِبار أيضًا، لا تَجدُه يُعبِّر عن عاطفةٍ بعينها ويجعل من هذا هدفه. هو يُعبِّر عن الحزن أو المرح أو الاكتئاب، إنه يستعمل العواطف والأفكار كموادَّ خام يَمزُجها ويُلوِّن بها كلماته وخطوطه لِيستطيع أن يُعبِّر بها عما هو أكبر من الحزن والتفاؤل والرقة، عن الإنسان — وبالذات — عن إنساننا المعاصر. كل ما ينقص صلاح ليكون شارلينا ونجيبنا، أن يُؤمِن بالموهبة الخارقة التي كان — دون أن يدري — يُعِدُّ لها نفسه، بشعره ورسوماته. لقد ظَلَلنا مدةً طويلةً نترقب مَهدِيَّنا المُنتظَر في التمثيل، وحين شاهدتُ صلاح جاهين دمعت عيني فرحًا.