القنبلة الثالثة
لا بد لي أن أقول إني أخذتُ الموضوع ببساطة أكثر مما يجب، وذهبتُ لمشاهدة المسرحية وفي ذهني أنها محاولةٌ ناشئةٌ لكاتبٍ مسرحيٍّ ناشئ عن موضوعٍ قديم. ولكن الذي حدث في المسرحية شيءٌ لا أستطيع تصويره. فجأةً وجدتُ نفسي أمام عملٍ ناضج ولقضيةٍ إنسانية حية. بالضبط كان هذا شعوري وأنا أُشاهِد مسرحية «القنبلة الثالثة» للأستاذ مصطفى مشعل. إنها أوَّلُ عملٍ يكتبه للمسرح. هذا حقيقي، ولكنِّي أُؤكِّد أن المسرح المصري سيرى من هذا الكاتب كل عميقٍ وجديد. إنه من القلائل جدًّا الذين يعرفون كيف يكتبون للمسرح وماذا يكتبون. حين سألته لماذا كَتبتَ هذه الرواية عن الكولونيل تيبتس الذي ألقى القنبلة الأولى فوق هيروشيما، قال — واحكموا عليه من قوله — لقد عشِقتُ في صغري الأدب الإغريقي وقُمتُ بترجمته لإذاعة الإسكندرية، وحين قرأتُ مُلخَّصًا للأستاذ ضياء الدين بيبرس نشره في الجمهورية لكتابٍ صدر عن تيبتس انفعلتُ بشخصية هذا الرجل انفعالًا عميقًا وقُلتُ لنفسي: لقد كان الإغريق يُقيمون الدنيا ويقعدونها إذا أخطأ أوديب وتزوَّج أُمه وكانوا يفعلون من هذا مأساةً يهتز لها الشعور، وكل جريمة ماكبث أنه طَمِع في المُلك وقتل ملكه لِيغتصِب عرشه ومن هذه الجريمة صنع شكسبير تراجيديته المشهورة، فكيف لا تصلُح قصةٌ كهذه مأساة في قرننا العشرين، قصة الرجل الذي لم يتزوج أُمه ولم يقتل ملكًا أو بضعة أفرادٍ فقط ولكنه قتل وشرَّد وشوه مائة ألفِ نسمة، مائة ألف إنسانٍ من دمٍ ولحمٍ وأعصاب، قتلهم وحده، وبقنبلةٍ قالوا له كُن بطلًا وَألقِها، فألقاها، وعاش بطلًا لثلاثة أشهر ثم أصابه الانهيار؟ كيف لا يصلُح موضوعٌ كهذا تراجيدية حديثة؟ والحقيقة وحدها خير دليلٍ إذ لقد ثبت أن تسعةً من طاقم الطائرة التي ألقت القنبلة وكان عددهم اثنَي عشر قد أُصيبوا بالجنون ودخلوا مَصحَّات الأمراض العقلية. ما كاد هذا يحدث حتى وجدتُ نفسي أبحث وأُنقِّب واستوردتُ الكتب عن كل ما يمت إلى تيبتس وحياته بصلة، وكَتبتُ هذه المسرحية.
وجاء العمل كما قُلتُ ناضجًا مكتملًا، والمسرح مليء من حولي بالمواطنِين العاديِّين البسطاء الذين اجتذبهم موضوعٌ كهذا؛ موضوعٌ عن قائد الطائرة الأمريكي الذي ألقى قُنبلةً ذريةً فوق بلدٍ يابانيٍّ بعيد هو الآخر منذ تسعة عشر عامًا مضت. اجتذبهم الموضوع بصِدقه ونُضجه إلى درجةٍ دفعتهم لترك حياتهم وتسليتهم والمجيء للغوص في هذه المأساة مرةً أخرى. إني لم أُعجَب بالمؤلف فقط، لقد أعجبني أكثرَ جمهورُنا الطيب الرائع المستعد دائمًا لأن يفهم ويعي ويشارك ويتقبَّل.
إنها كلمة تحيةٍ حارةٍ للمُؤلِّف الذي اختار وكتب، وللمخرج فوزي درويش الذي أتقن، ولمحسن سرحان الذي كُنتُ قد تصورت أن السينما قد أَخذَته إلى الأبد فإذا به في هذه المسرحية مُمثلُ خَشبةٍ ممتاز، وإلى زوزو نبيل تلك المُمثِّلة البعيدة الغَور في فهمها للشخصية التي تمثلها. وأخيرًا وليس آخرًا للجمهور الغفير الحسَّاس المُشارِك؛ جمهور شعبنا الحبيب.