سستر أكتورا
سستر أكتورا، أوَّل الأمر، كنت كلما سَمِعتُ الاسم يُنطَق هكذا أعتقد أنها دكتورة وأنهم ينادونها بلقَب الأخت الدكتورة، ولكني من اليوم الثالث أدركتُ الحقيقة وأنها ليست دكتورة، ولكنها راهبةٌ كبقية الراهبات الموجودات بالمستشفى، بيضاءُ طويلةٌ مثل معظمهن، زرقاءُ العينَين دسمة الوجه خفيفة الحركة إلى أقصى درجة، تستيقظ في السادسة من صباح كل يومٍ ولا تنام قبل منتصف الليل، واسمها يتردَّد بين جنبات المستشفى ورَدهَاته، سستر أكتورا، سستر أكتورا.
أنتظر حتى تأتي سستر أكتورا من الكنيسة، والكنيسة صغيرةٌ محندقةٌ مُلحَقة بالمستشفى تتراقص فيها أضواء الشموع، هزيلةً حمراءَ ساحرة في النهار، تلمحهن يدخُلنها بعد دقَّات جرسها المُكوَّن من أعمدةٍ نُحاسية مُجوَّفة مُختلفة الطُّول تُصدِر كلما طُرِقَت بالمِطرقة الخشبية نَغماتٍ موسيقيةً خافتة، ومن الممر تلمحُهن نصف راكعاتٍ على الأرض يصلين للمسيح وللعذراء وللروح القدس، صلاةً خافتة ساكنة في معظمها، تجعلك تُحِس أنت المسلم للمسيحية بطعمٍ آخرً ومعنى.
ها هي سستر أكتورا قادمة بعد انتهاء الصلاة، ها هن جميعًا ينصرفن كلٌّ إلى عملها، إلى المطبخ والمخزن والمنسج والغرفة والعنبر، يعملن بدأبٍ وصبرٍ وابتسامة، وكأن العمل عبادةٌ يقابلن فيه الله. هؤلاء الألمانيات اللاتي تَركْن بلدهن في الشمال، أقصى الشمال، وحَضَرن هنا، إلى القاهرة يَعبُدن الله في خدمة المرضى هكذا في صمتٍ وتضحية وإيمان، والسؤال لا بد يُلِح عليك. تُرى أية قوى جبارةٍ استطاعت أن تُرغم كلًّا منهن على ترك حياة الناس — وحياة الناس في بلادها كلية — وتَترهَّب؟ نعتقد أن وراء كلٍّ منهن قصة، ولا بد وراء سستر أكتورا بالذات هذه المُتفجِّرة صحة وشبابًا، قِصة، مهما حاوَلتَ معرفتها فلن تستطيع ولكنك حتى إذا فشِلتَ لا بد ستحترم هذه القصة وتَخِر مُقدِّرًا ساجدًا أمام التضحية؛ فلن يُضحِّي الإنسان لا بعامٍ من عمره ولكن بكل عمره، بكل صباه وشبابه ونُضجه من أجل مبدأ أو فكرة أو عقيدة. بالضبط هذا هو الإنسان كما يجب أن يكون الإنسان، وكما هي كائنةٌ سستر أكتورا، وأَخَوات أكتورا بأرديتهن السوداء البيضاء المهيبة، وبابتساماتهن الشاحبة، وصلاتهن الصامتة، ودَأبِهن الكادحِ الطويل، سستر أكتورا، أشكرك.