نغمة اليوم في العراق
بغداد
والطائرة تحلق بنا فوق بغداد كانت خواطرُ كثيرةٌ تتدافع إلى رأسي، بغداد؛ عاصمة العِز والخلافة، حامِلة مجد أبي جعفر المنصور، شاهدةُ واقعةِ البرامكة، وصاحبةُ أَقربِ وأَعنفِ تاريخ. كانت أسماءٌ من التي طالما سمِعناها بقوةٍ وبإصرارٍ تتردد: الكاظمية والأعظمية والكرخ، ووزارة الدفاع ومعسكر الرشيد، بغداد عاصمة العراق؛ بغداد التي ما أَوسعَ وأَرحبَ ما حَكمَت، وما أكثر ما ضُيِّق عليها الخناق. ها أنا ذا، لأول مرة على وشك أن أراها. إن كل مدينةٍ عظيمة لها — كالكائن الحي — شخصيةٌ وسُمعةٌ وتاريخٌ وترتبط في ذهن كلٍّ منا بعشراتٍ من الخيوط المنظورة والخفية، وكالشخصية العظيمة لا بد أن تُحس وأنت تَتأهَّب للقائها بالشَّوق المقرون بالرهبة؛ رهبة أن يخيب الأمل.
وما كِدنا نُصبح في شوارع بغداد حتى كان المساء قد حل، والأضواء كثيرةٌ في بغداد؛ فالكهرباء رخيصة، والليل والأضواء أَضفَيا على بغدادَ السِّحرَ الذي يجعلك تقع في حب المدينة من أول نظرة. وبغدادُ مدينةٌ فريدة في بابها؛ فهي ليست مثل باقي المدن لها وسطٌ تجاري مزدحم وحوافُّ وضواحٍ قليلة الحركة والازدحام. إنها تكاد تكون عدة مدنٍ يكاد يكون لكل مدينةٍ كيانها الخاص واستقلالها؛ مدن وأحياء تفصلها عن بعضها مساحاتٌ واسعة من الأرض الفضاء، حتى لنَعجَب لوجود هذه المئات من الأفدنة المأهولة في قلب مدينة بغداد، والعمارات قليلة، ومعظم المدينة مُكوَّن من بيوتٍ صغيرة وفيللات؛ وضع كانت نتيجته أن اتَّسعَت رُقعة المدينة اتساعًا غيرَ معقول، وليس في بغدادَ ترامٌ ولا زحام، والحركة هادئة، والناس طيبون، تُحدِّثهم فيفيض حديثهم رقة وعذوبة، وحتى مُظاهراتُهم تحفل بالشِّعرِ والهُتافات المنغَّمة والأهازيج الشعبية وكثيرٍ من الفصاحة، حتى لتَعجَب بعد هذا وتحتار: أتُصدِّق ما تَلمَسه وتراه، أم تُصدِّق الوجه الآخر، الوجه العابس الغاضب لهذا الشعب؟
وتحتار أكثرَ حينما يشبع نهمك إلى السياحة والتفرُّج وحب الاستطلاع، وتبدأ تدرس الأوضاع السياسية والاجتماعية في بغداد والعراق. تحتار لأنك تجد نفسك أمام أوضاعٍ مُعقدةٍ غاية التعقيد، وأمام تياراتٍ متضاربة ومتشعبة ومتلاقية ومختلفة ومتنافرة ومتآلفة بحيث لا بد من مرور زمنٍ طويل قبل أن تبدأ تفهم الخريطة المليئة بالعلامات والشعارات والحفائر التاريخية والرموز.
وكثيرٌ من الباحثِين والمُعلقِين يعطون أهميةً كبيرةً للتقسيمات الفئوية والقومية في العراق، ويضعون خطوطًا فاصلة وعميقة بين الشيعة والسُّنة وبين الأكراد والعرب والأشوريِّين والتركمان، ولكني لا أعتقد أن هذه الخطوط تذهب إلى أَعمقَ من السطح، كُل ما في الأمر أن للشعب في العراق ولِمُثقَّفِيه على مر العصور سمةً رئيسية وخطيرة في الوقت نفسه، هي التي تُعطي للصورة هذا الشكل الحاد للتقسيمات.