المشكلة النظرية في بولندا
مشاكل المُثقَّفِين في بولندا إذن ليست مشاكلَ شخصيةً تتعلق بذواتهم أو أعمالهم، ولكن مشكلتهم كما استخلصتُها من عشرات المناقشات والأحاديث هي الاشتراكية، أو بالأصح مشاكل الاشتراكية. وأولها مشكلة الديمقراطية، أو بمعنًى أدقَّ مشكلة الديمقراطية الاشتراكية. في منزل الصديق الكاتب ميجانوفسكي قابلتُ أحد الخُلاصات الفكرية للمجتمع البولندي ممثلًا في كاتبٍ كبير ورئيس تحرير إحدى المجلات الكبرى، والحقيقة أنه كان مثالًا للذكاء والفهم الاشتراكي العميق. ومُلخَّص ما قاله لي خلال سهرةٍ بأكملها أن مشكلة الاشتراكية في العالم أجمع الآن هي أن تجد لنفسها، بعد أن أَرسَت دعائم التطبيق الاقتصادي، النظامَ الديمقراطيَّ الخاص بها، ليس البرلمانية الغربية الرأسمالية فهذه نظمٌ خاصة لا يمكن أن تتكرر في البلاد الاشتراكية، ولكنها نظمٌ ديمقراطية نابعة من صميم النظام الاشتراكي ومُعَدَّة بحيث تضمن التطبيق الديمقراطي الحقيقي؛ أي اشتراك جماهير الشعب اشتراكًا فعليًّا في الحكم لا يَحدُّه حَدٌّ من خوفٍ أو سلبية. لقد أدَّت الاشتراكية دَورًا معجزًا في النهوض باقتصاديات البلاد التي طُبِّقَت فيها، وبقي أن تُؤدِّي مهمتها الحقيقية ألا وهي إشراك الناس في حُكم أنفسهم بأنفسهم وما يعقُب هذا ويَسبقُه من لامركزية الأجهزة الاقتصادية.
والمُؤسَّسات العامة. إن هذه المشكلة في رأيه تضع الاشتراكية أمام اختبارٍ من المُحتَّم لها إن عاجلًا أو آجلًا أن تجتازه وإلا فَقدَت رُوحها نفسِها واستحالت إلى نظامٍ لا تقبله الجماهير.
وتلك هي بالضبط المشكلة الاشتراكية كما يراها المُثقَّفون الاشتراكيون في كل مكانٍ من العالم. فإذا كان قيام الثورة الاشتراكية مُشكلَة العالم في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، فالسمة الرئيسية لعصرنا الحاضر هي قيام الديمقراطية الاشتراكية، لا كشعارٍ، وإنما كحقيقةٍ واقعة.
وبالطبع ليس هذا سهلًا أبدًا؛ فدونه عقباتٌ كثيرة أولها العقليات التي دَأبَت على التطبيق الاشتراكي في ظل نظمٍ مركزيةٍ صارمة. إن تقبُّل هذه العقليات الأسلوب الديمقراطي الشعبي الاشتراكي قبولًا سليمًا ومن تلقاء نفسها مسألةٌ تبدو بعيدةَ التحقيق، فما الحل؟ وما هي الحلول البولندية للمشكلة؟
أَعتقِد أن الإجابة على هذه الأسئلة والكثير غيرها في حاجةٍ إلى لقاءٍ آخر.