هل انتهى الصراع في الجزائر

مَنْح الاستقلال كان الوسيلة الأخيرة لمقاومة الثورة!
الفَخ الذي نصبته فرنسا وسقط فيه الزعماء.
في الجزائر سلاحٌ سري لم يستعمله إلى الآن أحد.
الأزمة ليس لها إلا حلٌّ واحد.

***

القُراء في كل مكان لا بد أنهم ملُّوا تتبُّع تفاصيلِ الصراع الدائر الآن فوق أرض الجزائر. والسؤال التقليدي الذي أصبَحتَ تجده على كل لسان هو: النتيجة من الذي سينتصر في هذا الصراع، وكيف؟

سؤالٌ تُحس منه أن الناس يدركون عن وعيٍ أو لا وعيٍ أن مرحلة الصراع الحالية مرحلةٌ مؤقتة، وأنها لا بد ستنتهي، ولكن المشكلة هي كيف تكون النهاية وفي أيِّ اتجاه؟ هل سيتمكن بن بيلا ومعه أعضاء المكتب السياسي من التغلُّب على سلسلة القوى المعارِضة المتصلة والتي تتخذ لها في كل مرةٍ اسمًا مختلفًا، داخلَ جبهة التحرير وخارجَها، ويستطيع هو ورفاقه أن يُعيدوا لذلك التنظيم الثوري قُوتَه وسَيطرتَه بحيث يعود المكتب السياسي يقود الجبهة، والجبهة تقود الشعب في وحدةٍ وطنية تُواجه صِعابَ ما بعد الاستقلال؟

أم سيَظلُّ الوضع مُتأرجِحًا بين المُعسكَرَين الرئيسيَّين المُتنازعَين بحيث لا تميل الكفة إلى أحدهما «وهو الوضع الذي يريده الاستعمار» وبحيث يُفني الطرفان قُوَّتهما وطاقتهما في هذه المعركة الداخلية التي لن يَربحَ فيها سِوى الأعداء؟

أم هل يَفلِت الزمام وتستطيع المؤامرات والمُتناقِضات الداخلية الرهيبة بمساعدةٍ وإشعالٍ وخطة بالغة الخُبث من الخارج، أن تخلُق في الجزائر وضعًا يكون للحركة الوطنية فيه مصيرُ زَميلتِها في الكونغو وجواتيمالا والعراق؟

أم تَنفرِد الجزائر بوضعٍ جديد علينا تمامًا، مختلفٍ في الشكل اختلافًا كليًّا عما حدث في الكونغو أو العراق وإن كان يُؤدِّي نفس الغاية؟

احتمالاتٌ كثيرة كما نرى، ولكنها في النهاية لا تخرج عن احتمالَين؛ مع الثورة أو ضدها.

لقد دَخلَت الجزائر حرب التحرير وخاضَتها وخَرجَت منها، لا بالاستقلال والنصر فقط، ولكن بما هو أهم من الاستقلال والانتصار، بشعبٍ ثائرٍ مُنظَّمٍ مُسلَّح يقوده تنظيمٌ ثوريٌّ بالغ القوة والنفوذ. ثورة مثالية بكل معنى الكلمة. ولو كان الأمر قد استمر على هذا الوضع لمضى الشعب الجزائري إلى مستقبله وأهدافه الاجتماعية والسياسية بعد الاستقلال بقوةٍ ليس لها من نظير، ولَتحقَّقت جميع أهدافه بأَسرعَ مما حدث في أي بلدٍ آخر وفي أي فترةٍ أخرى من فترات التاريخ. إن الشعب حين تتضافر العوامل والظروف لِتجعلَه يثور ويجد في هذه اللحظات بالذات، القيادةَ الثوريةَ المخلصة التي تستطيع تنظيمه وتَملِك القدرة على أن تظل طليعته الواعية، شعبٌ كهذا باستطاعته أن يُحقِّق المعجزات. وأقول المعجزات لا كنوعٍ من المبالغة الأسلوبية ولكني أقولها وأعنيها.

ولم نصدق القوى المضادة للثورة:

والقوى المضادة للثورة، الاستعمار لم يكن يُصدِّق هذا. صوَّرها لنفسه أوَّل الأمر عصابةً خارجة على القانون وحاربها حَربَ الخارجِين على القانون ففَشِل. حينئذٍ اعتقد أنها من صنع البلاد العربية التي تُعادي فرنسا وأن تلك البلاد هي التي تُثيرها وتُهيِّج الجزائريِّين وتُموِّل «الفلاجة» وحاربها على هذا الأساس بالدعاية المُركَّزة في الداخل والإخصائيِّين السيكلوجيِّين، وفي النهاية حاربها جهرًا في بورسعيد وفي المدن والقرى الجزائرية ففشل أيضًا، فشلًا ذريعًا.

ثم صوَّرها لنفسه على أنها عصاباتٌ سريةٌ مُسلَّحة وأنها هي التي تثور ضده وليس الشعب الجزائري ككل. وعلى هذا الأساس أعاد خططَه وتكتيكاتِه وركَّز كل قوته الحربية والسياسية لِعزل جيش التحرير عن الشعب، معتقدًا أنه إذا سحق الجيشَ انتهَت الثورة واستراح، بل بلغ في هذه الحرب أن غيَّر من تكوين الجيش الفرنسي المُنظَّم وأحاله وحداتٍ صغيرةً كوحداتِ حرب العصابات وأرسلها إلى الجبل كي تُحارب وحداتِ جيش التحرير بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب، وأيضًا فشِل.

وحين مضت هذه السنوات الكثيرة والاستعمار يُقاوِم الثورة هذه المقاومة الإجرامية ويُجرِّب معها كل وسيلةٍ وتفشَل الوسائل كلها، بل تزداد الثورة قوةً وانتشارًا.

وحين عَمَّ الكفاحُ الجزائر كلها من الجبل إلى السهل، ومن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال والشرق والغرب، وحين تحركت جماهير المدن على هيئة مظاهراتٍ وتنظيماتٍ سريةٍ مسلحة، وحين بلغ من انتشار الثورة حدَّ أنها انتَقلَت إلى فرنسا نَفسِها. حينئذٍ فقد بدأ الاستعمار يُدرك أنه أمام المعجزة التي إذا حَدثَت فمستحيلٌ أن تُقاوَم أو يقفَ في طريقها حائل، أمامَ شعبٍ ثائرٍ مُنظَّم تنظيمًا وعلى رأسه قيادةٌ ثوريةٌ مخلصة؛ شعبٌ كهذا من الممكن أن يَظل ثائرًا مقاومًا لعشراتِ السنين ومئاتها، شعبٌ كهذا لا يُؤثِّر فيه الزمن، ولا تُوهِن منه التضحيات، وبالعكس كلما طال الزمن اشتد عزمه، وكلما كَثرَت التضحياتُ تكوَّنَت له أسبابٌ جديدةٌ للاستمرار في الثورة والإصرار على النصر.

والاستعمار الفرنسي ليس بالغباء الذي يُصوِّره لنا به رسَّامو الكاريكاتير، ومثله مثل أي استعمارٍ آخر، يُمثِّل خُلاصة الذكاء الرأسمالي وقُدرتَه وطاقتَه على الفَهم والاستيعابِ والابتكار وتغيير الخطط.

فماذا يفعل الاستعمار أمام هذا الثائرِ ذي التنظيم الحديدي والقيادة الواعية المتحدة المُصمِّمة مثل تصميم شعبها المُصرَّة على نيل الاستقلال؟

الحقيقة وَضَع لنفسه عِدةَ خطط بحيث كلما جرَّب إحداها وفشِلَت استعان بالأخرى.

الخطة الأولى

كان قد أدرك أن حصول الجزائر على استقلالها قد أصبح أمرًا مفروغًا منه، ومشكلته ليست أبدًا أن يُعطيَها استقلالها؛ فاقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا الاستقلالُ أَهونُ بكثيرٍ من ثورةٍ ضدَّه تُكلِّفه المال والرجال وتَنخر قواه. مُشكلتُه أَصبحَت هي ماذا يحدث بعد الاستقلال؟ أن يتحكم في الوضع بحيث تستقل الجزائر من ناحية، ولكنها تظل مُجبرةً على الارتباط بفرنسا ارتباطًا طويلَ المدى شبهَ دائم. والسؤال هو: كيف يمكن أن يَرتبط هذا الشعبُ الثائرُ المُنظَّم ذو القيادة الواعية، كيف؟ ومن أين تضمن فرنسا لشعبٍ كهذا؛ شعبٍ قَتلَت منه مليون رجلٍ وامرأة ومثَّلَت بأهله وأذاقَتهم من المرارة ألوانًا، كيف بعد أن يستقل شعبٌ كهذا يظل مرتبطًا بالدولة التي ارتَكبَت في حقه، وفي خلال ١٣٢ عامًا من احتلالها له، كلَّ تلك المذابح والجرائم والمجازر؟

إن الخطة التي انتهى إليها الاستعمار كانت بسيطة جدًّا.

أن تُغيِّر فرنسا جلدها ووجهها.

ولقد غيَّرت فرنسا كثيرًا من الجلود والوجوه، حتى الاشتراكيِّين أتت بهم، إلى أن انتهى الأمر إلى تغيير الجمهورية نفسها وإقامة جمهوريةٍ خامسةٍ جديدة ذات رئيس أتت به من مُتحَفها التاريخي، كلُّ مؤهلاته أنه ليس من أصحاب السوابقِ في الجزائر، وأن عليه أيضًا مسحاتٍ ولمحاتٍ من فرنسا التي حاربت هتلر وساهمت في إنقاذ العالم من نازيته وشروره؛ شارل ديجول.

وجاء ديجول بشعارٍ ذي دويٍّ جديدٍ غريب: إن من حق الجزائريين أن يُقرِّروا مصيرهم بأنفسهم.

شعار في ذلك الحين، كان غريبًا أن يصدُر عن رئيس الجمهورية الفرنسية، نفس الجمهورية التي قتلت ٤٥ ألف مواطنٍ جزائري؛ لأن بعضهم تَظاهَر مظاهرةً سلمية يطلُب فيها حق تقرير المصير.

مُجرَّد صدور هذا الشعار كان الخطوة الأولى الكُبرى في تغيير وَجهِ فرنسا وجِلدِها.

تلَتها خطوات، المُفاوضَات، أول مَرَّة تقبل فيها فرنسا مفاوضاتٍ علنيةً ومع من؟ مع ممثل جبهة التحرير، أو الخارجِين على القانون، الفلاجة.

وحَسِب الكثيرون أنها مفاوضاتٌ لن تؤدي إلى شيء، وأنها كسبُ وقت، وأنها عبث، وأن الجزائر لا يُمكِن أن تحصل على الاستقلال بهذه الطريقة.

ولكن — حَسَب الخطة — خيَّبَت فرنسا أمل هؤلاء جميعًا، وإذا بها تُعطي الجزائر فعلًا حق تقرير المصير. وجاء الاستفتاء، وكان كثيرون أيضًا يتوقعون تَدخلًا وتزويرًا وألاعيبَ كثيرةً من فرنسا، ولكن حدث أغربُ شيء، لم تتدخل فرنسا مُطلَقًا في الاستفتاء، وجاءت نتيجته أغلبيةً ساحقة، وأَصبَح استقلال الجزائر حقيقةً واقعة.

وبدا ديجول، ومن ورائه رجالات فرنسا للجزائريِّين وللعالم أجمع بمظهر الشرفاء أصحاب المبادئ الذين إذا وعدوا وَفَّوا، وإذا قالوا فعلوا، والذين حَقًّا وصِدقًا سلَّموا الجزائر للجزائريِّين بنُبل وشَرف. هكذا وقف القائد الفرنسي يُنزِل علم فرنسا ليرتفع علم الجزائر، وتنتهي وظيفة الرجل، وتُنهِي فرنسا بيدها احتلالَها تحت سَمعِ العالم — غير المُصدِّق — وبَصرِه.

ولِلحقيقة أيضًا يجب أن نقول إن هذه الخطوات كلها كانت قد نَجحَت فعلًا في تغيير وجه فرنسا وجِلدها أمام الرأي العام الجزائري والعربي والعالمي.

ولكن هذا التغيير هو الجزء الأول من الخطة.

الجزء الثاني؛ أهم جزء

فلو غيَّرت فرنسا وجهها وجِلدَها مليون مرة وطلَّقَته بكل القيم والمبادئ التي يحلُم بها الإنسان. لو حدث هذا وبقي الوضع في الجزائر كما هو عليه؛ أي شعبٌ مُنظمٌ متحدٌ ثائر بقيادةٍ منظمةٍ متحدةٍ ثائرة، لظل الشعب يَمضِي في ثورته إلى نهايتها، ولتَبخَّرت كل الأحلام التي راوَدَت فرنسا عن ربط الجزائر بعد الاستقلال بها بطريقةٍ تجعل من الاستقلال مجردَ كلمةٍ ولافتة.

الخطوة الثانية إذن كانت أن تمتد اليد إلى هذه الكتلة المُتجانسة التي لا تستطيع أن تُميِّز فيها قيادة من قاعدة، تمتد اليد إلى هذه الكتلة بعد أن يكون نيل الاستقلال قد خفَّض من درجة حرارتها وبرَّدها، وتعبث بها عبثًا مُبيتًا مرسومًا بدقةٍ وبمهارةٍ عظمى؛ عبثًا هدفُه تقسيم هذه الكتلة إلى قيادة وقاعدة أولًا، ثم تقسيم القيادة، ثم جعل التقسيم القيادي يمتد إلى أسفل ويَقسِم الشعب. فإذا لم تنجح الجهود كان على فرنسا أن تلعب بورقة المُستوطنِين ومصالحهم وتتدخل بنفسها في الوقت المناسب «لحماية» هذه المصالح وهؤلاء الرعايا، وإذا لم يُفلِح تقسيم الشعب على أساسٍ سياسي فمن الممكن تقسيمه على أساسٍ قبائلي، وإثارة نَعرة التعصُّب بين العربي والقبائلي.

خططٌ واحتمالاتٌ وتكتيكاتٌ كثيرة بحيث كلما فشِلَت إحداها حلت أُخرى محلَّها لتظل الخطةُ ماضيةً؛ الخطة التي هدفُها في النهاية سلب المضمون من كلمة الاستقلال، وإضعافُ الحركة الوطنية الجزائرية إلى درجةٍ لا تقوى على مواجهة أوضاعِ ما بعد الاستقلال، وتلجأ مضطرةً أو راضيةً إلى فرنسا؛ إضعافُ هذه الكتلة الثورية الضخمة المُكتسِحة التي لم يَزدِها الحصول على الاستقلال إلا ثقةً في نفسها وطموحها.

أو حتى إذا لم تنجح فرنسا في إضعافها إلى تلك الدرجة، فعلى الأقل تُضعِفها إلى درجةٍ تُحدِّد إقامة الحركة الوطنية الجزائرية داخل الجزائر نفسها، غارقةً في مشاكلها غيرَ مستطيعةٍ أن تمتد أو تُؤثِّر فيما حولها، أو — هذه هي أخطر النقاط — أن تتصل بالحركة الوطنية المصرية ويكون الاثنان معًا جناحَي الثورة العربية الكبرى.

إعطاء الاستقلال كأزمة ومجاعة

كانت خطة فرنسا مبنيةً كلها أو معظمها على اعتبار أنها هي التي ستقوم بالدور، من وراء الستار طبعًا، وأن العبء كله سيقع عليها؛ خطة مُحكمة فهي في الحقيقة المرحلة الخامسة والحاسمة من مراحل مقاومة الثورة الجزائرية.

وقد يبدو هذا غريبًا، وقد يقول البعض إننا نبالغ في سوء الظن ونُحمِّل الواقع فوق ما يحتمل، ولكنها الحقيقة المُجرَّدة؛ ففرنسا التي فشِلَت في مقاومة الثورة كحرب عصاباتٍ محدودةٍ في الجبل، ثم كجيشِ تحريرٍ مُنظَّم، ثم كجبهةِ تحريرٍ ذاتِ كفاحٍ عسكريٍّ وسياسي، ثم كمشروعِ دولةٍ جزائريةٍ ذات حكومةٍ مؤقتةٍ ورعايا ووزارات وأجهزة؛ فرنسا التي أَدركَت أنها إذا مضت في مقاومة الثورة إلى أكثرَ من هذا وبنفس الطريقة فسينتهي الأمر بها إلى أن تخسر كل شيء، تخسر الجزائر وشمال أفريقيا كله، وقد تخسر فرنسا نفسها، فرنسا هذه، أو الرأسمالية الفرنسية الكبيرة حاكمة فرنسا والمُسيطرة على قواها، رأت أن لا بُد من تغيير الخطة بحيث تُعطي الجزائريِّين علنًا وأمام العالم كله الكلمة التي يتمسكون بها أكثر من تمسكهم بالحياة، الكلمة التي تَجمعُهم وتولد فيهم الطاقاتِ الرهيبةَ التي يُحارِبون بها ويُكافِحون ويُقاوِمون، تعطيهم الاستقلال، اسمًا عاليًا مُدوِّيًا له مفعول السحر، تعطيه إياهم لا كتاجٍ ومفخرةٍ وإنما كمشكلة، ككارثة، كمأزقٍ خطيرٍ تقع فيه القيادة والقاعدة، ويحدث حوله ومن أجله الصراع؛ صراعٌ تضمن فرنسا نتيجته، فهو صراعٌ بين جزائريِّين وجزائريِّين نتيجته الحتمية إضعاف الجزائريين جميعًا وهد قواهم.

وهكذا في جزائرَ خرَّبَتها المُنظَّمة السرية وأَرغمَت كل الفنيِّين فيها والحرفيِّين على مغادرتها، في جزائرَ مُفلِسةٍ مُغلقَة الدكاكين، في جزائر لا تستطيع أن تعيش شهرَين أو ثلاثةً بمفردها، في جزائرَ مشلولةِ الاقتصاد عاجزة، أَنزلَت فرنسا عَلمَها لترفع العلم الجزائري ليرتفع فوق الخراب والمجاعة وليلتف حوله مليونان ونصف مليون من المُتعطِّلِين، ولتقول فرنسا للجزائريِّين. لقد أَردتُم جميعًا الاستقلال وحاربتُموني من أجله. هاكم استقلالَكم إذن. دعوه يملأ بطونَكُم الخاوية. دعوه يزحم جُيوبَكم المُقطَّعة بالنقود. دعوه يخلُق لكم العمل أيها المُتعطِّلون، والمُستشفياتِ أيها المرضى، والسلامَ يا من أردتم السلام، نفس الطريقة الفرنسية الحقيرة التي اتَّبعوها يوم سَحَبوا المرشِدِين من القنال.

ولكنَّ هذا كله لم يُحرِّكْ في الجزائريِّين شعرة؛ فمع إدراكهم لكل هذا احتفَلوا بالاستقلال احتفالًا أقضَّ مَضاجعَ الفرنسيِّين، مُستوطنِين وهاربِين ومُتآمرِين على استقلال الجزائر واقتصادها. لقد ضرب الشعب بكل هذه المآزق عُرض الحائط، واستعد أن يظل مُتعطلًا جائعًا يَغزِل ملابسه ويقترض دُخانه ما دام سيظل يرى العَلمَ الجزائري، عَلمَه، مرفوعًا فوق أرضه.

فشِلَت، بالنسبة للشعب، خطة فرنسا في إعطائه الاستقلال على هيئة مجاعةٍ وبطالة ومشكلةٍ ضخمة.

ونجحت خطة فرنسا هذه المرة

وكان الوجه الثاني للخطة خاصًّا بجبهة التحرير وقيادتها؛ أي إعطاؤهم الاستقلال هم الآخرون على هيئة مشكلةٍ يتصارعون حولها ويتناحرون.

وهنا فقط، في هذه النقطة بالذات، نَجحَت الخطة الفرنسية نجاحًا لم تكن تتوقعه فرنسا نفسها، ودون أي تدخُّلٍ علني منها يَشجُب موقفها أمام العالم، ويَكشِف عن وجهها الذي غيَّرته ولونِ جِلدِها.

تولَّى القادة الجزائريون — دون وعيٍ منهم — أن يُنفِّذوا بالنيابة عن فرنسا خطتها. وبينما الشعب يركل القوت والعمل والصحة وأية مطالبَ حيويةٍ أخرى له، ويُفوِّت على فرنسا خطة أن ينقلب استقلاله كارثةً ومشكلة، بينما الشعب يفعل هذا كان النزاعُ بين القادة ينفجر، النزاعُ حول السلطة، ويبدأ من أول يومِه قاسيًا مريرًا بحيث يصل خلال بضعةِ أيامٍ إلى عنفوانه.

هل هو صراع بين جزائريِّين وجزائريِّين، فقط؟

ولكن هذا الحديث كله عن الصراع نقوله ونحن لا نزال في منطقة البراءة والنية الحسنة، نقوله باعتبار أنه خلافٌ في الرأي أدَّى إلى تطاحن، باعتبار أنه جزائريٌ مائة في المائة لا دخل لِفرنسا ولا لأيِّ يدٍ أخرى فيه.

فهل هو هكذا فعلًا؟

إنها الصورة التي تبدو للعين المُجرَّدة؛ ففي العلن الصراعُ جزائريٌّ دمًا ولحمًا ولا أحد يتدخل فيه، وكل الأطراف من غربها إلى شرقها تبدو واقفةً لا تفعل إلا أن تتفرَّج على الموقف وتنتظر النتيجة.

فهل هذا هو ما يدور في الخفاء أيضًا؟

لقد أصبَحَت مودة أن نتهم الاستعمار، وأن ننفي عن أنفسنا كل مسئوليةٍ ونُحمِّل الاستعمار، هذه الكلمة الواسعة المطاطة التي أصبَحَت وهي تُنطق مجردة لا تعني شيئًا بالمرة؛ فحتى أمريكا تقول إنها تكافح الاستعمار. من السهل أن نقول القُوى الاستعمارية هي المسئولة عن هذا الصراع وهي التي تُحرِّكه، ولكن هذا القول لا يُقرِّبنا من الحقيقة ومن فهم الوضع ومُعالجَته أيةَ خطوة. المهم أن نعرف حقيقة كيف يتدخل الاستعمار، ومع مَن يقف، وكيف يُحرِّك الخلاف. المهم ألَّا نقولها كلمةً مبهمةً ونمضي؛ فليس أحب إلى قلب الاستعمار نفسه من أن نَرتكبَ هذه الحماقاتِ اللفظية، ونُساهِم بهذه الطريقة في تَغطيتِه.

كيف إذن يلعب الاستعمار في الجزائر

لا بد أننا جميعًا لاحظنا ظاهرةً غريبة تُميِّز هذه المعركة بين القادة الجزائريِّين. ألم نلاحظ أنه كلما بدَت المشكلة تَجنَح إلى التقريب بين وجهات النظر، كلما أصبح اجتماع القادة واتفاقهم على أبواب الوقوع، كلما تنفسنا جميعًا الصُّعَداء وقلنا: خلاص انتهت الأزمة. كلما حدث شيءٌ من هذا وجدنا أنه في آخر لحظةٍ تدخَّل عاملٌ جديد لم يكن في الحُسبان وأجَّج الخلاف مرةً أخرى؟

إن الأمثلة لهذا أكثر من أن نُضيع الوقت في إحصائها، ولكنا للأهمية نكتفي بهذا المثل الأخير، حكاية الولاية الرابعة التي دَخلَت قواتها إلى العاصمة لتحُل الأزمة، وإذا بها تُغيِّر موقفها فجأة وتبدأ تعادي المكتب السياسي، وبعد أن كانت الأزمة ناشبةً بين المكتب السياسي من ناحية والولاية الرابعة والثالثة من ناحيةٍ أخرى؛ أزمةٌ على أثرها انفرط عِقد المكتب السياسي وبدأ كريم يُدلي بتصريحات وبوضياف يستقيل ويرتبك الوَضعُ ويَتعكَّر الماء بصورةٍ أظلمَ وأعنفَ مما كانت عليه.

إننا لسنا في حاجةٍ إلى ذكاء لكي ندرك أننا بهذا المثَل نَضبِط تدخلًا استعماريًّا على هيئة يدٍ جزائرية، على هيئة قيادة الولاية الرابعة بالذات، وهو تدخلٌ خطير لا لخطورته في حد ذاته ولكن لصعوبة التغلُّب عليه؛ فقوات الولاية الرابعة جيشٌ مُسلَّح لإخضاعه لا بد — إن فشِلت في المفاوضات والمساومات — لا بد من استعمال القوة، يعني حربًا أهلية؛ شيء يَمقُته الشعب الجزائري أشَد المَقتِ ومستعدٌّ أن يقف ضد كل من يُنادي به أو يستخدمه حتى لو كان الحقُّ كل الحقِّ في جانب من يُنادي به أو يستخدمه.

لا بُد — للتغلب عليه إذن — من استعمال أسلحةٍ أخرى.

أسلحةٍ غيرِ مباشرة مثل إحداث انقلاباتٍ داخل قوات الولاية الرابعة نفسها، مثلما حدث في الولاية الثانية، ولكني لا أعتقد أن شيئًا كهذا ممكنٌ هذه المرة؛ فقيادة الولاية الرابعة هذه لم تقم بحركتها تلك عبثًا، وإلا فكيف كانت تجرؤ قيادةُ ولايةٍ لا تملك سوى بضع مئاتٍ من الجنود أن تتحدَّى المكتب السياسي وجيش التحرير كله وأربعَ ولاياتٍ أخرى؟ إن التفسير الوحيد لإقدامها على هذا العمل هو أنها لا بد ضامنةٌ بشكل قاطعٍ وأكيدٍ أنها ليست وحدها ولن تقف وحدها، وعند اللزوم ستتدخل قوًى ضخمةٌ لحمايتها؛ نفس القُوى التي تغذيها الآن بالمعلومات وتُحصِّنها ضد الانقلابات.

ولا أحد يعرف على وجه الدقة كيف سينتهي «فصل» الولاية الرابعة هذا، ولكن الظروف كلها توحي أنه لن يستمر طويلًا، وأنه قد يحدُث اليوم أو غدًا أن تُسيطِر قوات الولايات الأخرى على العاصمة، ولكن المشكلة ليست أن ينتهي «فصل» الولاية الرابعة، المشكلة أنه حتى لو انتهى فسيحدُث، في آخر لحظة، وكما كان يحدث دائمًا، أن عاملًا ليس في الحُسبان سيتدخل لِيؤجل الحل، وليبقى الوضع مائعًا ومنقسمًا. وستبقى فرنسا أيضًا واقفةً غير مُلامةٍ بينما المُلام هم القادة، وبالتالي جبهة التحرير والثورة. ولو حاول بن بيلا من ناحيته أن يَحسِمه بالجيش فالشعب محصنٌ ضد أي تدخلٍ مُسلح، وحتى إذا لم يكن كذلك فليس أحب إلى قلب فرنسا من معركةٍ مسلحةٍ تدور بين الجزائريِّين وتُصيب فيها بضعُ رصاصاتٍ بضعَ رعايا فرنسيِّين، لا بد أن يتدخل الجيش الفرنسي على أَثَرها «للمحافظة على الرعايا الفرنسيِّين ومصالحهم» ولن يلوم أحدٌ فرنسا بل اللوم كله سيقع على الجزائريِّين الذين «مُنِحوا الاستقلال ولكنهم لم يعرفوا كيف يحكمون أنفسهم به وأضاعوه».

الحل الوحيد للموقف

إن هناك حلًّا واحدًا للموقف في الجزائر؛ الشعب، ولا أَقصِد كسب الرأي العام الجزائري عن طريق الإذاعة والبيانات والمنشورات. إن الحل الوحيد أن يُجنَّد الشعب ويُنظَّم ولو تحت شعار المكتب السياسي بحيث يقف الشعب بجماهيره ضد كل خارجٍ عليه أو طاعنٍ فيه، بحيث تقف جماهير الشعب ضد قوات أية ولايةٍ تُراوِد الأحلام الخبيثة عقول قوادها. الشعب؛ ذلك السلاح الذي أُهمِل من أول لحظةٍ فكانت النتيجة وبالًا، وأدى اللجوء إلى قادة الولايات وقواتها أن أصبحت هناك ست جزائر بدلًا من جزائرَ واحدة، ومائةُ قائد بدلًا من قائدٍ واحد، والصراع الذي كان قائمًا بين زعيمَين ضُرب في ست وعشر وعشرين مرة، وأَصبَح لا بين زعماء بل بين ضباطٍ يملكون القوة والسلاح.

الشعب؛ الشعب الواعي الذي صَقلَته تجربةُ سبع سنواتٍ من الحرب الجهنَّمية، أوعى الجميع وأحرصهم على الاستقلال. الشعب الذي لم يَنسَ أبدًا فرنسا والذي لا يزال يعتبر اتفاقية إيفيان مجرد خطوة.

هذا الشعب يجب أن يُعطَى حقه في حماية نفسه وثورته وجبهته، وفورًا وبدون إبطاء وقبل أي انتخاباتٍ أو ترشيحاتٍ من واجب المكتب السياسي أن يُنظِّم الشعب حول الوحدة الوطنية أولًا، حول قيادة المكتب السياسي!

لا بد أن ينسى الزعماء الحكم ويَذكُروا الثورة، يَذكُروا أن الاستقلال بالطريقة التي تم بها خُدعَة وفخ، ويعترفوا بشجاعةٍ أنهم وقعوا فيه، وأن يستأنفوا الكِفاح، ليس ضد فرنسا، وإنما ضد الأطماع، ضد الانقِسام، ضد التفتِيت الذي حدث. إن أهم عملٍ ثوري الآن ليس هو إجراء الانتخابات ولا التحضير لها ولا التبشير بالاشتراكية ولا الحديث عن الإصلاح الزراعي. أهم عملٍ الآن هو جمع القُوى التي بعثَرها فخُّ الاستقلال، وجمعها كجبهةٍ أيضًا، جبهةٍ ليس فيها تحكمٌ فردي، جبهةٍ حقيقية مثلما كانت في أثناء الحرب. إن الوجه الآخر للأزمة — ويكاد تكون حسنتَها الوحيدة — أنها أَثبتَت للزعماء أنهم بغير الجبهة لا يساوون شيئًا، وبغير تكتُّلهم أو تجمُّعهم معًا لا يستطيعون الوقوف أمام عقبةٍ واحدة من العقبات الكثيرة التي ستُواجِههم. أَثبتَت لهم أن أية احلامٍ قد تسيطر على بعضهم في الانفراد بالسلطة وتصفية الباقِين، هي في الوقت الحاضر جريمة؛ فهي التي قد تُضيِّع الاستقلال نفسه. إن أحد أسباب انتصار الجزائر كان الجبهة، ويجب أن تظل الجبهة كي تستمر الجزائر في انتصاراتها إذ إن الكفاح لم يَنتهِ بعدُ، والمعركة لم تَنتهِ، والثوار إذا تحوَّلوا إلى حكام ومتصارعِين حول حكمٍ انتهَوا كثوار وبحث الشعب لنفسه عن قوادٍ ثوارٍ آخرِين. لقد نالت الجزائر استقلالها ولكن الثورة لم تنتهِ، والخطر قائمٌ فعلى أي شيءٍ يتصارع الزعماء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤