شكرًا للتعبئة

السبت

كلُّ مواطنٍ منا لابد قد وجد نفسه ذات يومٍ يعاني مأزق الحاجة إلى رقم. والأرقام كانت ولا تزال مشكلتي. كم من مرةٍ قضيتُ اليوم أو الأيام حائرًا مَغيظًا أبحث عن رقمٍ ولا أجده، وأُضطر إلى كتابة مقالٍ بأكمله لإقناع القارئ بما كان يمكن أن يُقنِعه به رقمه، مجرد رقمٍ بسيط. وكم سخِطتُ على هيئاتنا العامة ومصالحنا وإدارتنا الكثيرة تلك التي لا تُؤمِن بالأرقام ولا بأهميتها ولا تَحفِل بجَمعِها في كتابٍ أو إحصائية.

ولقد وَجدتُ مفاجأةً تنتظرني وأنا أَفُضُّ بريد اليوم. كانت كتابًا مُتوسِّط الحجم يمر عُنوانه أمام الأنظار بهدوء: الكتاب السنوي للإحصاءات العامة للجمهورية العربية المتحدة ١٩٥٢–١٩٦٠، بل قد يدفع طُول العُنوان إلى صرف النظر عن الكتاب كُليةً. غير أن حب الاستطلاع دفعَني لتقليب صفحاته، ولا أعرف إن كنتم قد جرَّبتم الشعور باليأس من العثور على شيء، ثم فرحة العثور عليه بعد مُدة ومفاجأة دون أن يخطُر على البال. إنه بالضبط ما كُنتُ أبحث عنه. إنها الأرقام، عشرات ومئات وآلاف الأرقام. إنها حياتنا وأرضنا وبلادنا ورجالنا ونساؤنا وأطفالنا وثرواتنا وحاضرنا ومستقبلنا في أرقام، حتى الرقم الذي طالما حيَّرني، طول نهر النيل والمسافة من الإسكندرية لأسوان، هناك، عدد الطلبة الشرقيِّين الذين يدرُسون بالقاهرة، عدد طائرات شركة الطيران العربية، تَعداد سُكان سيناء، كم طنًّا من البترول ننتجه. أرقام كلها موجودة بالكتاب، وليس في عامٍ واحد ولكن في عشرة أعوام، وبكل ما حدث فيها ولها من تَطوُّر. أَحسَستُ لحظتها أن ما وصلني ليس مجرد كتابٍ ولكنه كنزٌ من المعلومات.

ومن صفحته الأولى لم أَترُكْه إلا وقد قرأتُه إلى آخر صفحةٍ وإحصائية.

وأَغلقتُ الكِتابَ لا لكي أستريح، وإنما لكي أغمض عيني وأتأمَّل كلَّ ما قرأتُه من أرقام، أتأمَّله على ضوءٍ جديد؛ فكلٌّ منا يحيا في قطاعٍ خاص به بالكاد يعرفه، ومعلوماتُه من بقية قطاعات حياتنا نادرةٌ وأحيانًا كثيرةً في حُكم المَعدومة. هذا السجل يَخرُج بك من هذه الدائرة الضيقة إلى دائرة وجودنا كله. لقد تغيَّرت فكرتي عن بلادنا وجمهوريتنا وتجارتنا وزراعتنا وصناعتنا بعد قراءة الكتاب، لكأنه أخذ بيدِي وجعلني أصعد إلى مكانٍ عالٍ، إلى أعلى مكان أستطيع أن أرى منه بلادنا كلَّها وكل ما فيها من أَوجُه نشاط. ولو أن أعظم الكُتاب هو الذي كتبه لما كان باستطاعته أن يُبهرني ويُلهبني ويُغيِّر من نظرتي مثلما فَعلَت بي أرقام ذلك الكتاب الصغير.

إني لا أجد على غُلاف الكتاب أسماءً لأُحَيِّيها، وكمواطنٍ لِأشكُرها على الفكرة والمجهود الضخم الذي لا بُد قد بُذل لجمع هذا كله ومقارنته وتنسيقه. لا أجد سوى اسم إدارة التعبئة العامة. شكرًا لها وللعديد من جنودها العاملِين في صمت، المُخلصِين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤