ليس اتهامًا للأطباء
هذه المغامرة الصحفية التي قام بها اثنان من مُحرِّري الجمهورية، وزار أحدهما فيها عددًا من أساتذة كليات الطب في الإسكندرية والقاهرة وادَّعى فيها أنه مريض، وادَّعى الثاني أنه قريبه العامل، والتي اختلف فيها الأطباء حول تشخيص «مرض» المُحرِّر وكتبوا له ٣١ دواءً مختلفًا بعد أن حلَّلوا له الشايَ باعتباره البول، وكشفوا عليه «بالأشِعة». هذه المغامرة كلها لا أُوافِق عليها، لا من الناحية الطبية كما قد يتبادر إلى الذهن ولكن من الناحية الصحفية المَحضَة؛ فالطب علمٌ ورسالة، أيْ نعم، ولكن الصحافة أيضًا علم ورسالة، فإذا «خَدَعنا» نحن بعض الأطباء لِنُثبت أنهم «يَخدعَون» فإن الغاية هنا لا تُبرِّر الوسيلة؛ لأن الوسيلة الخطأ لا تُؤدِّي إلا لغايةٍ خطأ، تمامًا مثل من يدَّعي أنه يعمل للسلام ويُحارِب من أجل أن يسود السلام. إنه حينئذٍ لا يُعد رسولَ سلام، إنه رسولُ حربٍ مهما رفع فوق رَأسِه شِعار السلام وجَعجَع به. ولْيتصوَّر الواحد منا نفسه طبيبًا جالسًا في عيادته، وإذا بشخصٍ يُقبل ويَدفَع أجرة الكشف ويقول له عندي مغصٌ في جانبي الأيمن. كيف لا يأخذ كلامه حينئذٍ قضيةً مسلمةً بها ويبدأ بحثه لتشخيص المرض من هذه النقطة، من شكوى المريض؟ فأحيانًا، بل في حالات المغص بالذات لا يُوجد أية علاماتٍ أخرى للمرض غير شكوى المريض، وما دام المريض في تلك الحالات يشكو من مغصٍ فلا بُد أن هناك مرضًا ما ولا بد أن يصف الطبيب علاجًا للمرض، ولا بد أن يختلف الأطباء حول التشخيص فأسبابُ المَغص في الجانب الأيمن عديدة، ولكل سببٍ منها علاجٌ مختلف.
من ناحية المبدأ نفسِه معظم ما قاله الزميل الصحفي لا يَصلُح اتهامًا يُوجَّه إلى الأطباء الذين ذكر أسماءهم وعناوينهم، وليس فيه ما يُدينهم سواءٌ بينهم وبين أنفسهم أو بينهم وبين زملائهم ومواطِنِيهم. صحيحٌ هناك عشرات الأخطاء والجرائم التي يَرتكِبها عددٌ من الأطباء؛ تمامًا مثلما هناك عشرات الأخطاء والجرائم التي يرتكبها بعض المُحامِين أو المُهندسِين أو الصحفيِّين؛ فلا تُوجَد فئةٌ سليمة، أو فوق مستوى النقد والشبهات، ولكن لا يجب أبدًا أن نأخذ البريء بذنب المُسيء، ولا يجب أبدًا أن نَعيب على بعض أساتذة الطب أنهم يأخذون نقودًا في عيادتهم للكشف على المرضى طالما أن المجتمع يُصرِّح لهم بفتح هذه العيادات. والخطأ الأكبر الذي قد نتورط فيه هو أن نعتقد أن العَيب في علاج المُواطنِين والعِناية بصحتهم راجعٌ إلى فسادِ بعض الأطباء. كلامٌ كهذا يُعتَبر تخريفًا لأننا في هذه الحالة يصح أن نقول إن تأخير صناعِتنا راجع إلى فساد ذمم بعض المُهندسِين مثلًا.
العلاج لدينا يتعثر؛ لأن معظمنا فُقراءُ لا نستطيع معالجة أنفسنا، والدولة نفسها لا تستطيع معالجتنا. العيب في مستوانا الاقتصادي المُتخلِّف، العيبُ في الاستعمار الذي أنهَكَنا وهدَّ قُوانا.
إن ما حدث لا يُعَد اتهامًا لبعض الأطباء بقَدْر ما هو اتهامٌ لبعضِ الأوضاع التي عانَينا منها ولا نزال نُعاني.