حين كشف الدكتور أنور المُفتي على القرية
غفَر الله لأستاذنا الدكتور أنور المُفتي فقد جعلني أُمضي ساعاتِ ألم رهيبة. لقد كانت القرية المصرية بالنسبة لي كالأم العجوز الطيبة، أعرف أناسها وأحبهم وتَربِطني بهم عاطفةٌ قوية مبهمة لا أجد لها تبريرًا ولا تفسيرًا. في الأسبوع الماضي أتاح لي الدكتور أنور المُفتي جلسةَ نقاشٍ طبيٍّ فلسفي أدبي صوفي ممتعة، في آخرها تكرَّم وأعطاني التقرير الذي كتَبه عن تجربته في سحالي. وللأسف الشديد كانت ظروفي قد مَنعَتني من قراءة هذا التقرير قبلًا أو حضور المُحاضَرة القيمة التي عرضه الدكتور المُفتي فيها. أخذتُ التقرير وحاولتُ فقط أن أَتصفَّحه. كان تقريرًا عن العلاج في الوحدات الريفية الجديدة ومحاولةً علميةً لإدراك المصاعب الكامنة والتغلُّب عليها، ولكني من الصفحات الأولى أُصِبتُ بالذعر. لكأن القرية، تلك الأم العجوز الطيبة قد امتدَّت إليها يد عالمٍ طيبٍ تكشف عنها ثيابها القليلة وتُعرِّيها وتَفحَصها بكل دقة العلم وصرامته. وإنه لشيءٌ مزعج أن تَكتشِف أن تلك الأمراض وبكل تلك الكمِّيات تحيا وتُعشِّش في قريتك الطيبة. من المُفزع والمُروِّع أن تدرك أن أقرانك الذين كانوا معك ربما في إلزامي وربما في الحواري كلٌّ منهم لا بُد مصابٌ الآن بثلاثة أمراضٍ على الأقل إن لم يكن أحدُها قد تكفل به وقضى عليه. من المؤلم والمروِّع أن تتأمَّل تلك الحقيقة: وهي أن الريف، جسم أمتنا كلِّها مُتليِّفٌ بالبلهارسيا ومصابٌ بالأنيميا وتأكل مصارينه الإنكلستوما ويُعاني من النقص الخطير من الفيتامينات ومواد الطعام الأساسية.
لم يكن ما أقرؤه تقريرًا، ولا طبًّا، كان أسياخ حقائقَ محماةً تَنخر أي عقل وتُوقظ كل نائم وتجعله يتساءل: كيف كان باستطاعتنا بالله أن نعرف هذا كله أو أن نُعالجه بلا ثورة وبلا قوانينَ اشتراكية؟ بل نحن حتى بالثورة وبالقوانينِ الاشتراكية لا نزال أيضًا في مرحلة «التشخيص» ولم نبدأ العلاجَ الشاملَ بعدُ.