فنانةٌ جديدة
حين رأيتها ترقُص على المسرح خُيِّل إليَّ أنها لا يمكن أن تكون كائنًا حيًّا مثلَنا من دمٍ ولحمٍ وأمعاء، كانت كأنها جنيةٌ لها نفس القُدرة الخارقة التي نتصوَّرها عن الجنيِّات. قدرتها على التحكُّم في جسدِها وكيانِها. اسمها كاليريا فيدتشفيا نجمةٌ من نجوم فرقة باليه ليننجراد. كانت تمثل دور الساحرة في باليه «زهرة الصخر» وكان إتقانها للتعبير بجسدها كاملًا إلى درجةٍ يكاد الإنسان يَفقِد معها الإحساس بجسدها أو بوجودها فلا يشعُر إلا بالمعنى أو العاطفة التي تُعبِّر عنها.
ولم أستطع أن أمنع نفسي بعد انتهاء الباليه، وقابلتُها، كنتُ أريد أن أعرف منها تفاصيل تلك الرحلة الشاقةِ التي تخَلصَت فيها من ذاتها، التي صَنعَت فيها من جسدها، من أَذرُعها وسيقانها وأناملها، ذلك الجهاز الرائع في حساسيته الذي يشع العواطف التي يُريدها بإرادته وينقلها مُجسَّدةً معزوفةً خالصةً إلى الناس، فينسَون أنفسهم ويحيَونها، وتُفرِحهم وتُشقيهم بمجرد أن تُحِسَّ هي بالشقاء أو بالفرحة. وما أكبرَ الفارقَ بين الصورتَين، كاليريا التي خَطفَت وعيي على المسرح كانت وراء الكواليس إنسانةً دقيقةً رقيقة ذات ابتسامةٍ مؤدَّبةٍ خجولة؛ إنسانة احمرَّ وجهها حين سألتُها عن نفسها، وتلَعثمَت حين طلَبتُ منها «كما جرت عادة الأحاديث الصحفية مع النجوم» أن تذكر لي ما تُحبه وما تَكرهُه، ورأيها في الملاية اللَّف، والواقع أني بعد ثوان كنت أنا الذي أتعثر من خجلي. كنتُ أمام راهبةِ فن لم تأتِ إلى القاهرة «لتتفرَّج» على المصريين أو أهرامهم وحريمهم، فنانة جاءت كما قالت لي كرسولِ صداقةٍ بين شعبَين و«لِتُقدِّم في تواضُع بعض الإنتاج الفني السوفييتي لجماهير الشعب العربي.» تتحدث وهي تُدخِل ساقَيها في جوربَين من الصوف الرخيص لتحفظ حرارة عضلاتِها استعدادًا للرقصات القادمة، وأحاول أن أُشيد بموهبتها وعبقريَّتها فتخجل كأنها أُهينَت، وتكاد تغضب وتقول: هذه مُجاملةٌ أشكرك عليها فلا عبقرية ولا شيء، مُجرَّد تمرين. لي عشرون عامًا وأنا أتمرَّن لمدةٍ لا تقل عن سبع ساعات في اليوم الواحد. وأسألها لماذا اختارتِ الباليه، وهل والدها هو الذي أدخلها؟ فتقول ببساطةٍ إن أباها عامل مصنع، وإنها دخلت المسابقة التي تُقام للأطفال لاختيار من يصلُحون لمدارسِ الباليه، وكلُّ عبقريَّتها أن الاختيار وقع عليها.
– والفن يا آنسة كاليريا ما رأيك فيه؟
– دراسة وإصرار وتمرين.
– والوحي والإلهام؟
– ليس هناك إلا الإرادة.
– والمودة؟
– أنا أُفضِّل أن أُغيِّر أفكاري الخاطئة وأُجدِّد وأبتكر في ثقافتي.
– هل وَقعتِ في الحب؟
– كان حبي للباليه دائمًا أقوى.
– وهدفك في الحياة؟
– أن أُجيدَ رقصَ الباليه.
– ألم تُجيدِيه بعد؟
– طبعًا أنا لا أزال مبتدئة!
والمشكلة أنها كانت تَعنِي ما تقول.
أليست كاليربا نموذجًا لفنانةٍ جديدة من عالمٍ جديد!