الثقافة والعلم أساس الحضارة والاستقلال
الموضوع الذي أريد أن أدير فيه هذا الحديث هو مستقبل الثقافة في مصر التي رُدت إليها الحرية بإحياء الدستور، وأُعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال، فنحن نعيش في عصرٍ من أخص ما يوصف به أن الحرية والاستقلال فيه ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى، وأشمل فائدةً، وأعم نفعًا.
وقد كانت شعوب كثيرة من الناس في أقطارٍ كثيرة من الأرض تعيش حرة مستقلة، فلم تغنِ عنها الحرية شيئًا، ولم يجد عليها الاستقلال نفعًا، ولم تعصمها الحرية والاستقلال من أن تعتدي عليها شعوب أخرى تستمتع بالحرية والاستقلال، ولكنها لا تكتفي بهما ولا تراهما غايتها القصوى، وإنما تضيف إليهما شيئًا آخر أو أشياء أخرى.
تضيف إليهما الحضارة التي تقوم على الثقافة والعلم، والقوة التي تنشأ عن الثقافة والعلم، والثروة التي تنتجها الثقافة والعلم. ولولا أن مصر قصَّرت طائعة أو كارهة في ذات الثقافة والعلم لما فقدت حريتها، ولما أضاعت استقلالها، ولما احتاجت إلى هذا الجهاد العنيف الشريف لتسترد الحرية وتستعيد الاستقلال.
وليس من النافع أن نندم على ما فات، ولا من الممكن أن نستدرك ما كان، بل من الخير الذي يشحذ العزم ويقوي الأمل أن نفكر فيما أتيح لنا من الفوز، ونبتهج بما كُتب لنا من الظفر في هذا الجهاد الطويل الشاق الذي انتهى بنا إلى أن نسترد الاستقلال، ونحمل العالم المتحضر على أن يعرفه لنا، ويؤمن لنا به، ويتلقانا في عصبة الأمم كما يتلقى الأمم الحرة الكريمة.
من الخير أن نغتبط بهذا ونبتهج له، ولكن على ألا نكتفي بالاغتباط والابتهاج، وعلى ألا نشغل بالفرح عن النشاط، وألا يصرفنا الأمل عن العمل، وألا نقف أمام الاستقلال والحرية موقف المعجبين بهما المطمئنين إليهما، إنما نأخذهما كما تأخذهما الأمم الراقية على أنهما وسيلة إلى الكمال وسبب من أسباب الرقي، لا يكفان عن العمل وإنما يدفعان إليه، ولا يحدان الأمل، وإنما يمدانه ويزيدانه قوة وسعة وانبساطًا.
وما أعرف أني أشفقت من شيء كما أشفق من الاستقلال بعد أن كسبناه، ومن الحرية بعد أن ظفرنا بها! أشفق منهما لأني أخشى أن يغرَّانا عن أنفسنا، ويخيلا إلينا أننا قد وصلنا إلى آخر الطريق حين وصلنا إليهما، مع أننا لم نزد على أن ابتدأنا بهما الطريق.
وأشفق منهما لأنهما يحملاننا تبعات جسامًا حقًّا، أمام أنفسنا أولًا، وأمام العالم المُتحضر ثانيًا.
وأنا أخاف أشد الخوف ألا نُقدر هذه التبعات، أو ألا نُقدرها حق قدرها. أخاف أن نقصِّر في ذات أنفسنا، فنهمل مرافقنا، أو نأخذها في غير حزمٍ ولا جد، فنتأخر ونحن خليقون أن نتقدم، وننحط ونحن خليقون أن نرقى، ويعود الاستقلال والحرية علينا بالشر، وهما خليقان ألا يعودا علينا إلا بالخير كل الخير.
وأخاف أن نقصر في ذات أنفسنا، وعلينا من الأوروبيين عامة ومن أصدقائنا الإنجليز خاصة رقباء يحصون علينا الكبيرة والصغيرة، ويحاسبوننا على اليسير والعظيم، ولعلهم أن يكبروا من أغلاطنا ما نراه صغيرًا، وأن يعظموا من تقصيرنا ما نراه هينًا، وأن يقولوا: طالبوا بالاستقلال وأتعبوا أنفسهم وأتعبوا الناس في المطالبة به حتى إذا انتهوا إليه لم يذوقوه ولم يسيغوه ولم يعرفوا كيف ينتفعون به.
أخشى هذا كله، وأريد كما يريد كل مصري مثقف، يحب وطنه، ويحرص على كرامته، وحسن رأي الناس فيه، أن تكون حياتنا الحديثة ملائمة لمجدنا القديم، وأن يكون نشاطنا الحديث محققًا لرأينا في أنفسنا حين كنا نطالب بالاستقلال، ومحققًا لرأي الأمم المتحضرة فينا حين رضيت لنا عن هذا الاستقلال، وحين أظهرت لنا ما أظهرت من الترحيب وحسن اللقاء في جنيف.
نعم، وأريد كما يريد كل مصري مثقف، محب لوطنه، حريص على كرامته، ألا نلقى الأوروبي فنشعر بأن بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الاستعلاء علينا والاستخفاف بنا، وما يضطرنا إلى أن نزدري أنفسنا، ونعترف بأنه لا يظلمنا فيما يظهر من الاستطالة والاستعلاء.
إن أبغض شيء إلى الرجل الكريم الذي يشعر بالعزة والكرامة ويحرص عليهما أن يرى نفسه مضطرًّا إلى أن يعترف بأنه لم يصبح بعدُ لهما أهلًا.
فليحرص كل مصري على أن يجنب نفسه وأمته هذا الخزي، وسبيل ذلك أن نأخذ أمورنا بالحزم والجد منذ اليوم، وأن نعرض عن الألفاظ التي لا تُغني، إلى الأعمال التي تُغني، وأن نبدأ في إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساسٍ متين.