مسايرة الإسلام للحضارة في العصور المختلفة
وأنا أعلم أن كثيرًا من الناس سيلقون هذا النحو من التفكير بشيءٍ غير قليل من الإنكار له والازورار عنه؛ منهم من ينكر مشفقًا ويزورُّ خائفًا، لا يدفعه إلى الإنكار والازورار إلا الإخلاص وحسن القصد وسلامة الضمير، ومنهم من يتكلف الإشفاق والخوف، ويعلن الإنكار والازورار داعيًا بالويل والثبور وعظائم الأمور كما يقال ليوقظ فتنةً نائمة قد طال عليه نومها، وهو لا يرضى ولا يطمئن إلا إذا أوضع في الفتنة وعاش مستضيئًا بما تثير من اللظى واللهيب.
فأما هؤلاء المتكلفون المتصنعون الذين يكذبون على أنفسهم قبل أن يكذبوا على الناس، والذين يوقظون الفتنة لأنهم لا ينعمون إلا بها ولا يسعدون إلا في ظلها، فما ينبغي أن نحفل بهم ولا أن نفكر فيهم، ولا أن نوجه إليهم قولًا ولا أن نسوق إليهم حديثًا؛ لأن السبيل إلى إقناعهم منقطعة، وأبواب الأمل في إصلاح ذات نفوسهم مغلقة، فالخير أن يُتركوا لهذه النار التي تضطرم في قلوبهم حتى تأتي على هذه القلوب. وأما الذين يشفقون ويخافون عن إخلاصٍ وصدقٍ وعن حسن قصد وسلامة ضمير، فأنا حريص على أن أزيل ما يثور في نفوسهم من شك، وأردَّ إلى قلوبهم الكريمة الطيبة ما هي في حاجةٍ إليه من الأمن والاطمئنان. من هؤلاء الصادقين المخلصين قوم يشفقون على حياتنا الدينية من الاتصال بأوروبا على هذا النحو القوي الصريح الذي أدعو إليه، هم يرون ويسمعون أن في الحياة الأوروبية كثيرًا من الآثام وفنونًا من الموبقات واستباحة لأشياء لا يبيحها ديننا الحنيف، فيقولون في أنفسهم إن الدعوة إلى الاتصال بالحياة الأوروبية على هذا النحو خليقة أن تغري بما في الحياة الأوروبية من إثم، وتورِّط فيما فيها من موبقة، وتحرض على ما فيها من مخالفة للدين.
وقد يحسُن أن نلفت هؤلاء الصادقين الأخيار إلى أن الحياة الأوروبية ليست إثمًا كلها، وإلى أن فيها خيرًا كثيرًا، وإلى أن الإثم الخالص لا يمكِّن من الرقي، وقد ارتقى الأوروبيون ما في ذلك شك، وإلى أن حياتنا الحاضرة وحياتنا الماضية ليست خيرًا كلها بل فيها شر كثير، والخير الخالص لا يدفع إلى الانحطاط وقد انحطت حياتنا ما في ذلك شك، فحياة الأفراد والجماعات في كل مكان وفي كل زمان مزاج من الخير والشر مهما تختلف أجيال الناس ومهما يتباين ما يحيط بهم من الظروف.
والرجل الفطن الذي يؤثر نفسه بالخير خليق بأن ينصح لنفسه في أمر دينه وفي أمر دنياه، فيقبل على المعروف والإحسان، وينصرف عن المنكر والسوء ما وسعه ذلك، فإذا دعونا إلى الاتصال بالحياة الأوروبية ومجاراة الأوروبيين في سيرتهم التي انتهت بهم إلى الرقي والتفوق، فنحن لا ندعو إلى آثامهم وسيئاتهم، وإنما ندعو إلى خير ما عندهم وأنفع ما في سيرتهم، كما أن هؤلاء الصادقين الأخيار إذا دعوا إلى الاستمساك بحياتنا الموروثة والاحتفاظ بتقاليدنا المستقرة فهم من غير شك لا يدعون إلى أن نستمسك بما في حياتنا الموروثة من آثام، ولا إلى أن نحتفظ بما في تقاليدنا من سيئات، وإنما هم يدعون إلى أن نستمسك بما في حياتنا وتقاليدنا من الخير والمعروف، ونحن حين ندعو إلى الاتصال بأوروبا والأخذ بأسباب الرقي التي أخذوا بها، لا ندعو إلى أن نكون صورًا طبق الأصل للأوروبيين كما يقال؛ فذلك شيء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل. والأوروبيون يتخذون المسيحية لهم دينًا، فنحن لا ندعو إلى أن تصبح المسيحية لنا دينًا، وإنما ندعو إلى أن تكون أسباب الحضارة الأوروبية هي أسباب الحضارة المصرية؛ لأننا لا نستطيع أن نعيش بغير ذلك فضلًا عن أن نرقى ونسود.
والأوروبيون يختلفون في أشياء كثيرة؛ فهم مسيحيون في ظاهر أمرهم، ولكن مسيحيتهم أشكال وألوان، ولم يمنعهم اختلافهم في المذهب الديني من أن يتفقوا في أسباب الحضارة وفي نتائجها.
ومن الأوروبيين قوم يتخذون المسيحية دينًا، ومنهم من لا دين لهم، ولكن هذا كله لم يمنعهم — كما قلنا — من أن يتفقوا في أسباب الحضارة ويتفقوا في الاستمتاع بنتائجها والفوز بثمارها.
وليس من شكٍّ في أن الحضارة الأوروبية الحديثة قد وقفت من المسيحية الأوروبية موقف خصومة عنيفة متصلة، وليس من شكٍّ في أن أوروبا قد ضحت في سبيل هذه الخصومة الشيء الكثير من الأنفس والأموال.
ولكن الأمر قد انتهى فيها إلى شيءٍ من التوازن بين الدين والحضارة، ولكن العقل الأوروبي المستقيم قد انتهى إلى أن الخصومة العنيفة الآثمة لم تكن بين الدين والحضارة في حقيقة الأمر، وإنما كانت بين الذين يمثلون الدين والحضارة؛ كانت بين الأهواء والشهوات لا بين الدين الذي يغذو القلوب والشعور، والحضارة التي تنتجها العقول.
ولعل مصدر هذه الخصومة العنيفة بين الدين والعقل في أوروبا أو بين رجال الدين ورجال العقل، أن رجال الدين المسيحي لهم نظمهم وقوانينهم وسلطانهم القوي الذي كوَّنته لهم العصور المتصلة والظروف المختلفة، فلم يكن لهم بد من أن يذودوا عن هذا السلطان ويحافظوا على ما كان لهم من قوةٍ وبأس.
فأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوروبا؛ فالإسلام لا يعرف الأكليروس ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات، والإسلام قد ارتفع عن أن يجعل واسطة بين العبد وربه، فهذه السيئات التي جنتها أوروبا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لن نجنيها نحن إلا إذا أدخلنا على الإسلام ما ليس فيه وحمَّلناه ما لا يحتمل.
وبعد، فإني أحب أن يلتفت هؤلاء الصادقون الأخيار إلى أن الإسلام لم يكد يتجاوز بلاد العرب حتى اتصل بحضارات أجنبية كان مركزها في ذلك الوقت من العرب والمسلمين كمركز أوروبا منا الآن.
فلم يتحرج العرب المسلمون من أن يأخذوا بأسباب الحضارة الفارسية واليونانية كما أخذ بها الفرس والروم الذين لم يكونوا مسلمين في ذلك الوقت، لم يتحرجوا من ذلك ولم يرفضوه، وليس من شكٍّ في أنهم جنوا من ذلك بعض الشر فساءت الأخلاق والسِّيَر في بعض البيئات، وفسدت العقائد ودخائل النفوس في بعضها الآخر، ولكن شيئًا من ذلك لم يرد المسلمين عن الأخذ بأسباب الحضارة الفارسية واليونانية؛ لأنهم جنوا من ذلك ثمرات حلوة لا تزال الإنسانية تستمتع بها إلى الآن؛ فهم قد صاغوا من هاتين الحضارتين ومن تراثهم القديم هذه الحضارة الإسلامية الرائعة التي أزهرت أيام بني أمية وبني العباس، والتي يحرص المحافظون منا عليها أشد الحرص. وهذه الحضارة الإسلامية الرائعة لم يأتِ بها المسلمون من بلاد العرب وإنما أتوا ببعضها من هذه البلاد، وببعضها الآخر من مجوس الفرس، وببعضها الآخر من نصارى الروم. والذين يظنون أن الحياة يمكن أن تكون كلها خيرًا وبرًّا وصلاحًا يخطئون خطأً عظيمًا؛ فالخير المطلق في هذه الأرض مستحيل، وقد أراد الله للناس أن تكون حياتهم مزاجًا من الخير والشر، وأودع الإنسان عقله وإرادته وأنزل إليه دينه ليميز بين الخير والشر ولينصح لنفسه ويختار لها.
وقد احتمل المسلمون راضين أو كارهين زندقة الزنادقة ومجون الماجنين، قاوموا ذلك في الحدود المعقولة ولكنهم لم يرفضوا الحضارة الأجنبية التي أنتجت تلك الزندقة وهذا المجون.
وقد شهد المسلمون زندقة الزنادقة وفسوق الفُسَّاق ومجون الماجنين، ولكنهم شهدوا مع هذا كله نسك النُّسَّاك وزهد الزهاد وورع أصحاب الورع والصلاح.
وقد ورثنا آثار أولئك وهؤلاء مكتوبة؛ ورثنا شعر بشار وأبي نواس وأضرابهما، كما ورثنا فقه الأئمة وكلام المتكلمين وزهد الزهاد. والغريب أننا ننتفع بكل ما ورثنا من أسلافنا ولا يخطر لأحدٍ من أشد الناس محافظة أن يحظر درس بشار وأبي نواس، ولا أن يطلب إلى السلطان تحريق ما ورثنا من آثار الفلاسفة والزنادقة والمجان الذين لا يرضى عنهم الدين ولا تقرُّ الفضيلة سِيَرهم وآراءهم، ولو قد دعا داعٍ إلى استصدار قانون بتحريق شعر أبي نواس وبشار وحماد وأضرابهم لكان رجال الدين أنفسهم أسرع الناس إلى إنكار هذه الدعوة البشعة وأشد الناس سخطًا على من يدعو بها أو يجيب إليها.
والأمر في حياة الأوروبيين كالأمر في حياة المسلمين أيام بني أمية وبني العباس؛ لهم حضارة خصبة مزدهرة تنتج ما تنتجه الحضارة الإنسانية دائمًا من الخير والشر؛ ففيهم أصحاب الجد وفيهم أصحاب الهزل وفيهم أصحاب التقوى وفيهم أصحاب الفجور، ولن توجد في الأرض حضارة إلا وهي تنبت الخير والشر وتثمر التقى والإثم.
فليس على حياتنا الدينية بأس من الأخذ القوي بأسباب الحضارة الأوروبية؛ لأن أكثر مما كان عليها من بأسٍ حين أخذ المسلمون في قوة بأسباب حضارة الفرس والروم.
فنحن بين اثنتين: إما أن ننكر ماضينا كله ونجحد أسلافنا جميعًا ونرفض مجد المسلمين الذين أسسوا الحضارة الإسلامية، وما أظننا مستعدين لشيءٍ من هذا، وإما أن ننهج نهجهم ونذهب مذهبهم ونأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية في قوة، كما أخذوا هم في قوة بأسباب حضارة الفرس والروم. وليلاحظ أني في حقيقة الأمر لا أدعو إلى شيء، فنحن آخذون بأسباب هذه الحضارة الحديثة بالفعل منذ اتصلنا بأوروبا في أوائل القرن الماضي، وأخذُنا بها يزداد ويشتد من يومٍ إلى يوم، لا نستطيع غير ذلك ولا نملك العدول عنه، ولو قد حاولنا هذا العدول لهلكنا.
وإنما أريد أن يطمئن المشفقون والخائفون، وأن يقبلوا عن رضا وأمنٍ على هذه الحضارة التي يقبلون عليها عن إشفاقٍ وخوف، وإني لأعرف هذا الرجل الصالح الكريم من هذه البيئة المحافظة أو تلك ينكر الحضارة الأوروبية أشد الإنكار وهو غارق فيها إلى أذنيه، يتقلب فيها إذا أصبح، ويتقلب فيها إذا أمسى، ويدفع إليها أبناءه وبناته دفعًا، وإني لأعرف قومًا كرامًا صالحين كانوا ينكرون السفور واختلاط الفتيان والفتيات، يجهرون بهذا الإنكار ويجاهدون في سبيله، وبناتهم يذهبن إلى المدارس وإلى المدارس الأجنبية ويتخذن من الأزياء ما ليس بينه وبين الحجاب صلة!
أنا إذن لا أدعو في حقيقة الأمر إلى شيءٍ عملي، وإنما أدعو إلى شيءٍ نفسي؛ أدعو إلى أن تطمئن قلوب هؤلاء الأخيار وتستريح ضمائرهم وتتم الملاءمة بين ما يقولون وما يعملون وما يعتقدون، وإلا فمن السخف أن ندعو إلى الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية وقد دخل الراديو في الأزهر الشريف وقام صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر يتحدث به إلى المسلمين في أقطار الأرض جميعًا.
ومن السخف أن أدعو إلى الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية وقد دخلت علوم هذه الحضارة وفنونها في الأزهر وانتشرت بعوث الأزهر في عواصم أوروبا لتتلقى العلم والفن على الأساتذة الأوروبيين.
كلا، إني أحمد الله على أني لست من الغفلة بحيث أدعو جادًّا إلى الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية بعد أن فتحت هذه الحضارة قلعة المحافظة في الشرق وهي الأزهر، وبعد أن أصبح الأزهر مسرعًا إلى هذه الحضارة يدفعه إسراعه إلى شيءٍ يشبه الإسراف إن لم يكن هو الإسراف، وبعد أن أصبحت الجامعة المصرية وهي وليدة الحضارة الحديثة تميل إلى شيءٍ من المحافظة اجتنابًا للطفرة وإشفاقًا من الجموح وإمساكًا للتطور في حركة معقولة هادئة تمكِّننا من أن نرقى عن رويةٍ وفهم لا عن تهورٍ واندفاع.
إنما أريد كما قلت غير مرة أن نلائم بين آرائنا وأقوالنا وأعمالنا، وألا ننكر الحضارة الأوروبية ونحن مقبلون عليها وغارقون فيها.
أريد أن نصارح أنفسنا بالحق وأن نبرئها من النفاق، وأن نقبل على هذه الحضارة الحديثة باسمين لا عابسين؛ ففي ذلك راحة للضمائر وأمن للقلوب، وفيه قبل كل شيء وبعد كل شيء تمكين لنا من أن نأتي البيوت من أبوابها، ومن أن نواجه الأمور في قوةٍ وعزيمة بدل أن ندور حولها مستخفين متنكرين.
ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب، ولكني أوثر إذا أردت شيئًا أن أسعى إليه جهرة وفي وضح النهار لا أن أسعى إليه سرًّا وفي ظلمة الليل!