مادية الحضارة وروحية الشرق وحضارته
واعتراض أخير يُوجَّه إلى هذا النحو من التفكير ولكنَّ له وجهين، أحدهما خطر حقًّا والآخر مضحك حقًّا، فقد يقال إن الحضارة الأوروبية مادية مسرفة في المادية، لا تتصل بالروح أو لا تكاد تتصل به، وهي من أجل ذلك مصدر شر كثير تشقى به أوروبا ويشقى به العالم كله أيضًا.
ثم يقال بعد ذلك إن أوروبا نفسها قد زهدت في حضارتها وضاقت بها، وأخذ جماعة من كتابها وعلمائها وفلاسفتها يرغبون عن هذه الحضارة، ويلتمسون لقلوبهم وعقولهم غذاء في روحية الشرق، أفنُقبل على الحضارة الأوروبية حين يزهد فيها الأوروبيون؟ وما لنا نكبر هذه الحضارة وقد أصغرها أصحابها؟ وما لنا نعرف هذه الحضارة وقد أنكرها أصحابها؟ وما لنا نترك الخير الذي يرغب فيه الأوروبيون إلى الشر الذي يرغب عنه الأوروبيون؟
أقرأت هذا؟ إن بين المصريين خاصة والشرقيين عامة قومًا يملئُون به أفواههم، ويجرون به أقلامهم، ويلقون به في نفوس الشباب فلا يلقون فيها إلا سمًّا زعافًا. من الحق أن الحضارة الأوروبية عظيمة الحظ من المادية، ولكن من الكلام الفارغ والسخف الذي لا يقف عنده عاقل أن يقال إنها قليلة الحظ من هذه المعاني السامية التي تغذو الأرواح والقلوب، من الحق أن الحضارة الأوروبية مادية المظاهر، وقد نجحت من هذه الناحية نجاحًا باهرًا، فوُفِّقت إلى العلم الحديث، ثم إلى الفنون التطبيقية الحديثة، ثم إلى هذه المخترعات التي غيَّرت وجه الأرض وحياة الإنسان، ولكن من أجهل الجهل وأخطأ الخطأ أن يقال إن هذه الحضارة المادية قد صدرت عن المادة الخالصة، إنها نتيجة العقل، إنها نتيجة الخيال، إنها نتيجة الروح، إنها نتيجة الروح الخصب المنتج، نتيجة الروح الحي الذي يتصل بالعقل فيغذوه وينميه ويدفعه إلى التفكير ثم إلى الإنتاج ثم إلى استغلال الإنتاج، لا نتيجة هذا الروح العاكف على نفسه، الفارغ لها، الفاني فيها، الذي تفسد الأثرة عليه أمره فلا ينفع ولا ينتفع ولا يفيد ولا يستفيد.
وإنك لتدرس تاريخ الفلاسفة الأوروبيين والعلماء الأوروبيين والمخترعين الأوروبيين فلا تجد واحدًا منهم إلا وله من الروح أعظم حظ ممكن، له قبل كل شيء هذا الاستعداد السامي الذي يدفعه إلى التضحية بالوقت والجهد واللذة والحياة في سبيل الرأي ثم في سبيل التفكير، ثم في سبيل الإنتاج.
إن الذين يزعمون أن ديكارت كان خلوًا من الروح إنما يقولون سخفًا ويهذون بما لا يعلمون.
إن الذين يزعمون أن باستور كان خلوًا من الروح إنما يتحدثون عن جهلٍ ويصدرون عن غفلة ويخوضون فيما لا يعرفون. إن هذه الحضارة الأوروبية المادية هي التي تضحي في كل يوم بكثيرٍ من الأنفس في سبيل العلم وفي سبيل السيطرة على الطبيعة.
هؤلاء الذين يخاطرون في الطيران فيلقون فيه الموت شنيعًا بشعًا ليسوا ماديين؛ لأنهم يضحون بحياتهم في سبيل تقدم العلم وبسط سلطان العقل على عناصر الطبيعة الجامحة.
نعم، إن هناك كُتابًا وشعراء وفلاسفة يضيقون بالحضارة الأوروبية ولكنهم يبذلون حياتهم في سبيلها إن تعرضت للخطر، إن فريقًا من هؤلاء الكُتَّاب والفلاسفة يولُّون وجوههم شطر الشرق أو يظهرون ذلك، ولكن ثق بأنهم يرفضون الرفض كله أن يعيشوا عيشة الشرقيين أو يسيروا سيرتهم.
إن الضيق بالحياة الحاضرة خصلة يمتاز بها الرجل الراقي الحي، ولن يرضى عن الحياة رضا مطلقًا قوامه الإذعان إلا الذين خُلقوا للخمول والخمود، فإذا رأيت الأوروبي يضيق بحياته ويزدريها فاعلم أنه ما زال حيًّا راقيًا ممتازًا مستعدًّا للكمال، وإذا رأيت الأوروبي مُذعنًا راضيًا قانعًا بما قُسِمَ له فاعلم أن دولته قد آذنت بالزوال، وإذا قال الأوروبي لنا إن حضارته مادية بغيضة، فنحن خليقون أن نظن به اثنتين: فإن كان صادقًا علمنا أنه يريد المزيد من هذه الحضارة المادية البغيضة، وإن كان كاذبًا علمنا أنه يريد أن يزهدنا في هذه الحضارة ليستأثر بها من دوننا، وليحتفظ لنفسه بحسناتها ومزاياها، وليمسكنا نحن في حضارتنا الروحية التي تجعلنا له عبيدًا.
وبعد، فما هذا الشرق الروحي؟ ليس هو شرقنا القريب من غير شك، فشرقنا القريب كما رأيت هو مهد هذا العقل الذي يزدهي ويزدهر في أوروبا، وهو مصدر هذه الحضارة الأوروبية التي نريد أن نأخذ بأسبابها، وما أعرف أن للشرق القريب هذا روحًا يميزه من أوروبا، ويتيح له التفوق عليها، ظهرت في هذا الشرق القريب فنون وعلوم وآداب، تأثر بها اليونان والرومان، فأنتجوا حضارة أوروبا، وأعانهم على ذلك المسلمون؛ أي أهل هذا الشرق القريب.
وظهرت في هذا الشرق القريب ديانات سماوية، أخذ الأوروبيون منها كالشرقيين بحظوظهم، فمنهم المسيحي ومنهم اليهودي، ومنهم المسلم أيضًا، أفتكون هذه الديانات روحًا في الشرق ومادة في الغرب؟!
كلا! ليس الشرق الروحي الذي يفتن به بعض الأوروبيين صادقين وكاذبين فيخدعوننا على كل حالٍ هو الشرق القريب، وإنما هو الشرق البعيد، والشرق الأقصى، هو الهند والصين واليابان وما فيها من هذه الديانات والفلسفة التي لا تتصل أو لا تكاد تتصل بدياناتنا وفلسفتنا، فلننظر أي الأمرين نختار لأنفسنا: أنريد أن نعتنق ديانة الصينيين وفلسفتهم، ونأخذ بأسباب حضارتهم؟ ولكنهم هم يأخذون بأسباب الحضارة الأوروبية أخذًا قويًّا، فأما اليابان فأمرها ظاهر، وأما الصين فقد لجأت إلى عصبة الأمم منذ أعوامٍ تطلب إليها أن ترسل إليها الخبراء لينظموا لها التعليم على النحو الأوروبي، والصين كما تعلم مقسمة الآن بين نزعتين مختلفتين: إحداهما نحو عصبة الأمم الديمقراطية الغربية، والأخرى نحو روسيا ومذهبها الشيوعي.
إن حديث الشرق الروحي هذا حديث لا غناء فيه، هو مضحك إن نظرنا إليه نظرة عامة؛ فإن المصريين الذين يزهدون في الحضارة الأوروبية، ويدعون إلى روحية الشرق، يعرفون إذا خلوا إلى أنفسهم أنهم يهزلون ولا يجدُّون، وأنهم لو خُيِّروا لكرهوا أشد الكره أن يحيوا حياة الصين والهند، ولكن هذا الحديث خطر؛ لأنه يلقي في روع الشباب بغض الحضارة الأوروبية التي يعرفونها، فيثبط هممهم، ويضعف عزائمهم، ويوجههم نحو هذه الحضارة الشرقية التي يجهلونها، فيدفعهم إلى بيداء ليس لها أول ولا آخر.
ومصدر هذا أن الذين يخوضون في أحاديث الشرق والغرب عندنا يجهلون الشرق والغرب جميعًا في أكثر الأحيان؛ لأنهم يعرفون ظواهر الأشياء ولا يتعمقون حقائقها.
وإذا كان هناك شر يجب أن نحمي منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب، الذي يكتفي بظواهر الأشياء ولا يتعمق حقائقها، فلننظر كيف نرد عن أجيال الشباب هذا الشر، وليس إلى ذلك من سبيل — فيما أرى — إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساسٍ متين.