القومية الإسلامية والقومية الوطنية
وإلى الدولة وحدها يجب أن توكل شئون التعليم كلها في مصر إلى أمدٍ بعيد، وليس معنى ذلك أني أكره أن يبذل الأفراد والجماعات ما يستطيعون من الجهد لإنشاء ما يمكن إنشاؤه من أنواع التعليم وفروعه، بل معناه أن حياة مصر الخاصة، وتطورها الحديث، يقضيان بأن تؤخذ أمور التعليم كلها بالجد والحزم، وأن يكون تنظيمها دقيقًا، والإشراف عليها قويًّا، وملاحظاتها متصلة لا تفتر ولا تني، ومصدر ذلك أن مصر مضطربة بين أمرين كلاهما خطير: أحدهما أن كثرة المصريين المطلقة لا تزال جاهلة جهلًا مطلقًا فلا بد من أن تقوم الديمقراطية بتعليمها، وبتعليمها على النحو الملائم لأصول الديمقراطية وغاياتها.
والدولة وحدها هي التي تستطيع أن تضع المناهج والبرامج لهذا التعليم، وأن تقوم على تنفيذ هذه المناهج والبرامج، وأن تلاحظ ذلك ملاحظة متصلة دقيقة، حتى لا ينحرف التعليم عن الطريق التي رُسمت له، وحتى لا ينتهي إلى غرض مباين للغرض الذي أُنشئ من أجله.
والثاني أن القلة المتعلمة من المصريين — وهي لا تعدو العشرين في المئة، وما أظنها تبلغها — قد خضعت لألوانٍ مختلفة من التعليم، ونظم متباينة ومناهج وبرامج ينكر بعضها بعضًا، ويصدم بعضها بعضًا، ونشأ عن ذلك اضطراب له آثاره الخطيرة في حياتنا المصرية على اختلاف فروعها وألوانها.
فهناك التعليم الرسمي المدني الذي تنشئه الدولة وتقوم عليه، وقد كان إلى الآن متواضعًا هين الأمر، يقصد به إلى أغراضٍ متواضعة هينة، وقد رسم الإنجليز له طريقة محدودة ضيقة، فأفسدوه وأفسدوا نتائجه وآثاره أشد الإفساد، ونحن نبذل منذ أعوام جهودًا مختلطة مضطربة متناقضة لإصلاح ما أفسد الإنجليز، فلا نكاد نوفق في بعض الأمر حتى تعدو العاديات فتردنا إلى الإخفاق والخذلان.
وهناك التعليم الأجنبي الذي قام في مصر، مستظلًّا بالامتيازات الأجنبية، غير حافل بالدولة، ولا خاضع لسلطانها ولا ملتفت إلى حاجات الشعب وأغراضه، ولا معنيٍّ إلا بنشر ثقافة البلاد التي جاء منها، والدعوة لهذه البلاد، وتكوين التلاميذ المصريين على نحوٍ أجنبي خالص، خليق أن يبغض إليهم بيئتهم المصرية، وأن يهون في نفوسهم قدر وطنهم المصري، لولا أن سلطان مصر على أبنائها أعظم من ذلك وأقوى، وأقدر على مقاومة ذلك ومحو آثاره.
فهناك تعليم فرنسي ديني، وهناك تعليم فرنسي مدني، وهناك تعليم إيطالي، وآخر يوناني، وآخر إنجليزي، وآخر أمريكي، وآخر ألماني، وكل هذه الأنواع من التعليم لا تفكر في مصر، ولا تحفل بها، وإنما تفكر في فرنسا وإيطاليا، وفي إنجلترا وأمريكا، وفي اليونان وألمانيا.
ويريد سوء الحظ أن يكون هذا التعليم الأجنبي في جملته أنفع وأغنى من التعليم المصري الرسمي، فيدفع المصريون إليه أبناءهم عن رضا واختيار، بل عن حبٍ وإيثار، وينتج عن ذلك أن الشبان الذين يخرجون من هذه المعاهد الأجنبية مهما يكن حبهم لمصر، وإيثارهم لها؛ فإنهم يفكرون على نحوٍ يخالف النحو الذي يفكر عليه الذين يخرجون من المعاهد المصرية، بل هم يفكرون على أنحاءٍ مختلفة، وتظهر نتائج هذا التفكير المختلف في حياتهم العملية اليومية، وفي تقديرهم للأشياء وحكمهم عليها.
وهناك التعليم المصري الحر الذي يزعم المحافظة على المناهج والبرامج الرسمية، ولكنه إلى عهدٍ قريب لم يكن خاضعًا لمراقبة الدولة وملاحظاتها، فكان يمضي كما يريد، أو كما يستطيع، وكان يمتاز بخصالٍ أقل ما توصف به أنها مصدر فساد للتفكير، ومصدر فساد للخلق، ومصدر فساد للسيرة العامة والخاصة.
لا نكاد نستثني من ذلك إلا معاهد ما نراها تعد على أصابع اليد الواحدة، وقد انتشر هذا التعليم انتشارًا شديدًا حين اشتدت حاجة الشعب إلى التعليم، وعجزت مدارس الدولة ومعاهدها عن أن ترضي هذه الحاجة، فكانت المدارس تنشأ بعمل الأفراد والجماعات، وكان الشعب يرسل أبناءه إليها؛ لأنه لا يدري إلى أين يرسلهم.
وكان عدد ضخم من أبناء الشعب على هذا النحو، يتعرض لألوانٍ كثيرة من الشر والفساد، وما نزال نشهد آثارها إلى اليوم، وما أرى إلا أننا سنشهد آثارها إلى أمدٍ غير بعيد.
وهناك تعليم آخر تشرف عليه الدولة ولا تشرف عليه؛ تشرف عليه لأنه خاضع آخر الأمر لسلطانها، ولا تشرف عليه لأنه مستقل في حقيقة الأمر استقلالًا عظيمًا، وهو التعليم الديني، الذي يقوم عليه الأزهر الشريف وما يتصل به من المعاهد المنبثة في الأقاليم.
هذا التعليم رسمي تشرف عليه الدولة؛ لأنها تنفق عليه من الخزانة، ومن أوقاف المسلمين، ولأنها تنظمه بما تصدر من اللوائح والقوانين، ولكنه كان إلى عهدٍ قريب منحازًا عن الحياة العامة، قد انصرف إلى نفسه، وانصرفت الدولة عنه، ومضى في طريقه، لا يكاد يخضع لمراقبة ولا ملاحظة، وكانت صفته الدينية — وما زالت — تحميه إلى حدٍّ بعيد من تدخل السلطان المدني، وكان إقبال الناس عليه — وما زال — عظيمًا، وهو بحكم طبيعته، وبيئته، ومحافظة القائمين عليه، وخضوعهم بحكم هذه المحافظة لكثيرٍ من أثقال القرون الوسطى، وكثيرٍ من أوضاعها، يصوغ التلاميذ والطلاب صيغة خاصة مخالفة للصيغة التي ينتجها التعليم المدني، بحيث يعرض الأمر من الأمور، أو الواقعة من الواقعات، فإذا الأزهري يتصوره على نحو، وإذا الشاب المدني يتصوره على نحوٍ آخر، وإذا هذا وذاك لا يتفقان في التفكير والتقدير، ولا يتفقان في الحكم والرأي، ولا يتفقان في السيرة والعمل، ولولا أن النهضة الوطنية قد كانت أقوى من أسباب الاختلاف فقربت بين المصريين ووحدت غايتهم، ولاءمت بين آمالهم وأعمالهم، ولولا أن هذه النهضة قد رفعت من شأن الصحف، ودفعت المصريين إلى قراءتها واتباعها، ولولا أن هذه النهضة قد أنتجت طائفة غير قليلة من الكتب التي قرأها المستنيرون من المصريين على اختلاف نزعاتهم، ولولا أن ألوانًا من المحن التي صُبَّت على المصريين من الأجنبي حينًا، ومن مواطنيهم حينًا آخر، فأشركتهم في الألم وأشركتهم في طلب التخلص من هذا الألم، لولا هذا كله لكانت آثار الاختلاف في التعليم أشد خطرًا، وأشنع عاقبة مما هي الآن.
وهناك تعليم وسط بين الديني الخالص والمدني الخالص، تمثله الآن دار العلوم وقد مثلته مدرسة القضاء حينًا، ويوشك الأزهر الحديث أن يكون له أصدق مثال. وهذا التعليم قد كان مفيدًا في وقتٍ من الأوقات حين كنا في حاجةٍ إلى أن نتطور على مهل، مراعاة لكثيرٍ من الظروف، ولكنه الآن قد أصبح في حاجةٍ إلى أن يعاد النظر في توجيهه؛ لأننا قد وصلنا إلى طورٍ لا يحتمل الإبطاء ولا التلكؤ، وإنما يدعو إلى الإسراع ومضاعفة النشاط.
كل هذا يصور حياتنا العقلية في هذا العصر، ويصورها بعيدة كل البعد عن أن تكون ملائمة لحاجتنا أو قل: لحاجاتنا المختلفة التي نطلبها إلى التعليم. ونحن إذا فكرنا قليلًا انتهينا إلى أن من أوجب واجبات الدولة المصرية في عشرات الأعوام المقبلة أن تحوط الاستقلال الخارجي، وأن تقر النظام الديمقراطي في داخل الحدود المصرية، ومهما يكن جهد الأفراد في حياة الاستقلال وتثبيت الديمقراطية؛ فإن هذا الجهد ليس شيئًا بالقياس إلى الجهد الذي يجب أن تبذله الدولة؛ لأن الدولة أقدر على ذلك وأنفذ إليه وهي لم تقم بعد إلا له.
وإذا كان أهم أعمال الدولة أن تحوط الاستقلال الخارجي؛ فإن الوسائل إلى حياطة هذا الاستقلال هي من أول واجبات الدولة ومن أهم أعمالها، وأي وسيلة إلى حياطة الاستقلال تعدل هذه الوسيلة الأساسية؟ هذه الوسيلة الأولى والأخيرة، وهي أن تنشئ الطفل المصري والفتى المصري على حب الاستقلال والتضحية بالنفس في حياطته والذياد عنه. وإذا كان من أول واجبات الدولة أن تحمي بعض المصريين من بعض، وأن تكفي بعضهم شر بعض، وأن تكفَّ بأس بعضهم عن بعض، وأن تقر فيهم العدل والأمن، وتحقق لهم المساواة وتكفل لهم حرية …
إذا كان هذا كله من أول واجبات الدولة وأهم أعمالها، فإن الوسيلة إلى هذا كله من أول واجبات الدولة وأهم أعمالها، وأي وسيلة إلى تثبيت الديمقراطية تعدل هذه الوسيلة الأساسية، هذه الوسيلة الأولى والأخيرة، وهي تنشيء الطفل المصري والفتى المصري على أن يحب مواطنيه، ويؤثرهم بالخير، ويضحي بنفسه في سبيل حمايتهم من الشر، وحياطتهم من الظلم، ويشعر بأن عليه واجبات قبل أن تكون له حقوق.
وما أظن أن الأفراد والجماعات إذا خُلي بينهم وبين التعليم يستطيعون في الظروف الحاضرة التي تحيط بمصر أن يحققوا هذا البرنامج الخطير، الذي يقوم على تنشيء الوطنية الحديثة في قلوب الأجيال المقبلة من شباب المصريين.
وما أظن أننا نستطيع أن نطلب إلى المدارس والمعاهد الأجنبية، ونحن مطمئنون حقًّا، أن تثبت في قلوب أبنائنا حب الوطن المصري، وحماية الاستقلال المصري، وحياطة الديمقراطية المصرية، وحسبنا ألا تكون هذه المدارس والمعاهد صارفة للشباب المصريين عن هذا الحب، مغرية لهم بحب أوطان أخرى، ولست أدعو إلى إغلاق المدارس والمعاهد الأجنبية، بل أنا بعيد عن ذلك كل البعد، نافر منه أشد النفور، لا لأن التزاماتنا الدولية تحول بيننا وبين ذلك، بل لأن حاجتنا الوطنية تدعونا إلى الاحتفاظ بهذه المدارس والمعاهد، فهي من جهةٍ نوافذُ قد فُتحت لمصر على الحضارات الأوروبية المختلفة، وهي من جهةٍ أخرى لا تزال متفوقة على مدارسنا في فنون التربية والتعليم.
ولكن الشيء الذي أدعو إليه، وألح فيه، وأرى أن الواجب الوطني يفرضه على الحكومة والبرلمان فرضًا، وأرى أن التقصير فيه تقصير في ذات الوطن، وتفريط في حماية الاستقلال، هو أن تراقب هذه المدارس مراقبة دقيقة تكفل محافظتها على مقدار من التعليم يلائم حقوق الوطنية المصرية وواجباتها، ولأكن واضحًا في هذا فأفصله بعض التفصيل.
ما أظن أحدًا يخالفني في أن من حق الدولة ومن الحق عليها أن تكفل لأبناء الشعب تعلم لغة الشعب وإتقانها؛ لأن هذه اللغة من أهم المقومات للشخصية الوطنية من جهة، ولأن هذه اللغة هي وسيلة التعامل والحياة بين أبناء الوطن الواحد، فإذا طلبنا إلى الدولة أن تفرض على المدارس الأجنبية التي تقوم في مصر تعليم اللغة العربية، وأن تتعهد هذا التعليم بالملاحظة المتصلة، والتفتيش المستمر، والامتحان الدقيق؛ حتى لا يكون هذا التعليم أقرب إلى الهزل منه إلى الجد وإلى الخداع منه إلى النصح.
إذا طلبنا إلى الدولة هذا لم نطلب منها شططًا، وإذا فرضت الدولة هذا على المدارس الأجنبية لم تكن ظالمة لها، ولا جائرة عليها، ولا مكلفة إياها أكثر مما تطيق، فهذه واحدة.
وإذا طلبنا إلى الدولة ألا تأذن لمدرسة أجنبية أن تعلم في مصر إلا إذا كان التاريخ القومي أساسًا من أسس التعليم فيها، وإلا إذا تحققت الدولة بالملاحظة والتفتيش والامتحان أن هذا التعليم جد لا لعب فيه، لم نطلب إليها شططًا، ولم نرهق هذه المدارس من أمرها عسرًا، فهذه ثانية.
وإذا طلبنا إلى الدولة ألا تسمح لمدرسة بالتعليم في مصر إلا إذا كانت الجغرافيا المصرية كالتاريخ المصري وكاللغة المصرية أساسًا من أسس التعليم فيها، وإلا إذا تحققت الدولة بالملاحظة والتفتيش والامتحان أن الشاب المصري الذي يتعلم في هذه المدارس يعرف جغرافيا مصر كما يعرفها الشاب الذي يتعلم في المدارس المصرية، لم نكلف الدولة شططًا ولم نفرض على هذه المدارس شيئًا غير معقول، فهذه ثالثة.
وهناك مسألة رابعة تحتاج إلى شيءٍ من التفكير، وقد تظهر غريبة بعض الشيء في بادئ الرأي، ولكنها في حقيقة الأمر طبيعية ملائمة للعدل، وهي مسألة التعليم الديني في المدارس، ومن الأوليات أن من حقنا ومن الحق علينا أن نتثبت بالملاحظة والتفتيش أن المدارس الأجنبية لا تنحرف بالتلاميذ عن دين آبائهم ولا تتخذهم موضوعًا للدعوة والتبشير، هذه مسألة مفروغ منها، تضمنها القوانين، ويجب أن يضمنها العمل أيضًا، وما نظن أن المدارس الأجنبية تظهر نفورًا من ذلك أو امتناعًا عليه.
ولكن المسألة الخليقة بالتفكير هي هذه: إذا كان التعليم الديني جزءًا أساسيًّا من مناهج التعليم المصري العام، فهل يصح ألا يكون هذا التعليم الديني جزءًا أساسيًّا من مناهج التعليم في المدارس الأجنبية التي تقوم في مصر وتنشر تعليمها بين المصريين؟ ذلك أننا إذا علَّمنا الدين في المدارس المصرية، وجعلناه ركنًا من أركان مناهج التعليم، فنحن من غير شك نعتمد على أن الدين مقوم خطير من مقومات الوطنية المصرية، وإذن فيجب أن يشترك المصريون جميعًا في هذا الجزء الأساسي من أجزاء التعليم. الواقع أن آراء الناس ومذاهبهم تختلف بالقياس إلى هذه المسألة؛ فمن الناس من يريد أن يكون التعليم مدنيًّا خالصًا، وألا يكون الدين جزءًا من أجزاء المنهج المقومة له، على أن يترك للأسر النهوض بالتعليم الديني، وألا تقيم الدولة في سبيل هذا التعليم من المصاعب والعقاب ما يجعله عسيرًا، ومنهم من يرى أن تعليم الدين واجب كتعليم اللغة وكتعليم التاريخ القومي؛ لأنه جزء مؤسس للشخصية الوطنية، فلا ينبغي إهماله، ولا التقصير في ذاته، وواضح جدًّا أن هذا الرأي الأخير هو مذهب المصريين، وأن من غير المعقول أن يطلب إلى المصريين الآن أن يقيموا التعليم العام في بلادهم على أساس مدني خالص، وأن يترك تعليم الدين للأسر، وإذن فلا ينبغي أن يكون هناك مصريون يخرجون من المدارس المصرية وقد تعلموا الدين القومي واللغة القومية والتاريخ القومي، وآخرون يخرجون من المدارس الأجنبية وليس لهم من التعليم الديني حظ ما.
وأنا أعلم أن كثيرًا من المدارس الأجنبية ستجد شيئًا غير قليل من المشقة في قبول هذا النحو من التفكير، والإذعان لهذا النحو من المنطق، ولكنه مع ذلك التفكير المستقيم والمنطق الذي لا مندوحة عن الإذعان له، إن كنا نريد أن نأخذ الأمور بالجد والحزم، وأن نوحد العقلية المصرية لنكون الوحدة الوطنية على النحو الحديث.
ويجب أن يفهم الأجانب والمصريون جميعًا أن قيام المدارس الأجنبية في أرض البلاد المستقلة مخالف لطبيعة السيادة الوطنية، فإذا قبلت مصر أن تقوم في أرضها هذه المدارس فيجب أن تطمئن إلى أنها لن تكون مصدر شر لها، أو خطر على عقلية أبنائها.
وإذا كان من الشاق على الأجانب أن يقبلوا تعليم الدين الإسلامي في مدارسهم التي هي مسيحية بطبعها، أو مدنية بطبعها، فيجب أن يذكروا أن من الشاق على المصريين أن يقبلوا قيام المدارس الأجنبية في بلادهم مع أن طبيعة الأشياء كانت تحظر عليهم هذا القبول.
وأنا بعيد كل البعد عن أن أدعو إلى إغلاق المدارس المصرية الحرة لتتمكن الدولة من أن تشرف إشرافًا دقيقًا على التعليم الوطني.
أنا بعيد كل البعد عن هذا؛ لأني أعلم أن الدولة التي تبيح للأجانب أن يقيموا المدارس في أرضها، لا تستطيع أن تحظر ذلك على أبناء الوطن، ثم لأني من أشد الناس حرصًا على تشجيع الجهود الخاصة التي يبذلها الأفراد والجماعات لا في سبيل التعليم وحده، بل في سبيل المرافق العامة كلها، أنا إذن لا أدعو إلى إغلاق هذه المدارس الحرة، ولا إلى تثبيط المقبلين على إنشائها، ولكن أريد أن تلاحظها الدولة أشد الملاحظة، وتراقبها الدولة أشد المراقبة، ولا سيما في هذا الطور من أطوار حياتنا القومية؛ لنبرأ من هذا الاختلاف والتفاوت اللذين أشرت إليهما.
بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا، فلا أريد أن تكون المدارس كلها في مصر متشابهة متوافقة تصب في قالبٍ واحد، وتصوغ الشباب صيغة واحدة، وإنما أحب أن يكون بينها شيء من التنوع والاختلاف، في المناهج والبرامج والنظام، ولكن بشرط أن تتفق كلها في مقدارٍ من المناهج والبرامج هو الذي يكفل تكوين الشخصية الوطنية في نفس التلميذ، ويركِّب في طبعه الاستعداد لتثبيت الديمقراطية، وحماية الاستقلال.
وقد بدأت الدولة منذ أعوام تُعنَى بملاحظة التعليم الحر؛ فأنا أرجو أن تستمر هذه العناية، وتنمو وتطرد وتتنوع، بحيث يصبح التعليم الحر عندنا صالحًا لإرضاء الحاجة الوطنية إليه من جهة، وقادرًا على تخفيف العبء عن الدولة بعد زمنٍ طويل أو قصير من جهةٍ أخرى.
وأنا بعيد كل البعد عن أن أدعو إلى المساس بجوهر التعليم الديني في الأزهر وما يتصل به من المعاهد المنبثة في الأقاليم، فقد قدمت أن الدين مقوم من مقومات الشخصية الوطنية، وأنا مؤمن بهذا فيما بيني وبين نفسي أشد الإيمان، وقد كانت مصر ملجأ للتعليم الديني الإسلامي حين انحسر ظله عن كثيرٍ من الأقطار الإسلامية، وكانت مصر معقلًا للإسلام حين عجز عن حمايته كثير من بلاد المسلمين.
فهذا مجد تليد لمصر لا ينبغي أن تفرط فيه، أو تقصر في ذاته، بل ينبغي أن تحوطه وتنميه، وأن تصبح كما كانت في العهود القديمة موطن الهدى، ومشرق النور للبلاد الإسلامية كافة.
هذا شيء لا أشك فيه، ولا أحب أن يظن بي الشك فيه، ولكني أريد أن يصور التعليم الأزهري تصويرًا يلائم هذه الحاجة الوطنية التي قدمت تفصيلها: إلى تكوين الوحدة المصرية من جهة، وإلى تثبيت الديمقراطية وحماية الاستقلال من جهةٍ أخرى.
ومعنى ذلك أن هناك مقدارًا من مناهج التعليم العام وبرامجه يجب أن يكون مشتركًا بين المصريين، ويجب أن تشرف الدولة بالملاحظة والتفتيش والامتحان على أن المصريين جميعًا مشتركون فيه، شركة عادلة، سواء تعلموا في المدارس الرسمية، أم في المدارس المصرية الحرة، أم في المدارس الأجنبية أم في الأزهر ومعاهده.
وما دام الأزهر حريصًا على أن يقوم بالتعليم الأولي الأزهري والتعليم الثانوي الأزهري، فلا بد إذن من أن يتحقق الإشراف الدقيق للدولة على هذا التعليم الأولي والثانوي في الأزهر؛ لتتثبت الدولة من أن المصريين جميعًا ينشئُون على معرفة وطنهم وحبه، والاستعداد للتضحية في سبيله، والإتقان للغته وتاريخه، وتقويمه ودينه، فإذا أخذ الأزهر في تخصيص أبنائه في العلوم الدينية بعد فراغهم من تعليمهم الثانوي فله أن يذهب في ذلك ما شاء من المذاهب الحرة، في حدود حاجته الدينية والعلمية، وفي حدود القانون العام.
وقد يقال إن مناهج التعليم الأزهري وبرامجه خاضعة لسلطان الدولة؛ لأنها قد صدر بها قانون، وكل ما تصدر به القوانين فهو خاضع لهذا السلطان العام، وهذا حق في ظاهر الأمر، ولكني لا أكتفي به ولا أطمئن إليه، وإنما أريد أن يعاد النظر في قوانين الأزهر، فنحن نعلم متى شرعت وكيف شرعت، ونحن نعرف ما خضعت له من الظروف، وأيسر ما يقال في ذلك أن هذه القوانين والنظم لم تشرع في عهد الديمقراطية الصحيحة، وأعوذ بالله أن أريد الانتقاص من حقوق الأزهر، وإنما أريد أن نلائم بين هذه الحقوق وبين النظام الديمقراطي الصحيح، وألا يكون الأزهر دولة في داخل الدولة، وسلطانًا خاصًّا يستطيع أن يطاول السلطان العام ويناوئه، كما هي الحال الآن إذا بقيت هيئة كبار العلماء، وإذا أتيح للأزهر بالفعل ما أتاحت له قوانينه من تخريج المعلمين في مدارس الدولة على اختلافها.
ثم إن المهم في التعليم الأولي والثانوي، وفي التعليم كله ليس هو المنهج والبرنامج، بل تنفيذ المنهج والبرنامج وطريقة هذا التنفيذ والإشراف عليه، وقد تكون مناهج التعليم الأولي والثانوي في الأزهر مشتملة على هذا المقدار الذي يجب أن يشترك المصريون جميعًا فيه، ولكن هذا إن صح لا يعدو أن تكون المناهج المكتوبة ملائمة للحاجة الوطنية، ومن البيِّن أننا لا نريد الاكتفاء بالمنهج المكتوب والبرنامج المرسوم، وإنما نريد أن ينفذ هذا المنهج على وجهه، وأن ينفذ هذا البرنامج على وجهه أيضًا، والذين ينهضون بالتعليم في المعاهد الأولية والثانوية الأزهرية جماعة من علماء الأزهر، لهم مكانهم من العلم بشئون الدين، ومن الفقه بفنونهم الأزهرية، ولكن هذا شيء والتعليم الأولي والثانوي على النحو الذي نطلبه وتقتضيه المصلحة الوطنية شيء آخر.
فلا بد من أن يكون للدولة، أو بعبارة أدق وأوضح: لا بد من أن يكون لوزارة المعارف إشراف دقيق على التعليم الأولي والثانوي في الأزهر؛ لأن وزارة المعارف هي عين الدولة على هذين النوعين من التعليم.
ولا ينبغي بحالٍ من الأحوال في بلدٍ كمصر أن يشذ التعليم الأولي والثانوي عن ملاحظة الدولة وعن إشرافها الدقيق بواسطة وزارة المعارف، إن كانت الدولة تريد أن تأخذ أمور التعليم بالجد والحزم.
وقد يقال إن إقحام الدولة ووزارة المعارف في شئون الأزهر على هذا النحو الذي نرسمه إضاعة لاستقلال الأزهر، أو لجزءٍ عظيم منه على أقل تقدير، ولكن الرد على هذا يسير، فليس هناك معنى لاستقلال التعليم الأولي والثانوي عن إشراف الدولة، وليس هناك نفع للدولة ولا للأزهر في هذا الاستقلال، وإنما المهم والضروري هو استقلال التعليم العالي، فكما أن الجامعة المصرية لن تؤدي واجبها على الوجه الأكمل إلا إذا استمتعت بالاستقلال العلمي التام، وبمقدارٍ معقول من الاستقلال الإداري والمالي، فكذلك الأزهر يجب أن يستقل بتعليمه العالي استقلالًا تامًّا، وبما يحتاج إليه هذا التعليم العالي من شئون الإدارة والمال استقلالًا معقولًا لا يناقض السلطان العام، ولا المسئولية الوزارية أمام البرلمان، ولا سيادة الدولة على كل ما يكون أو يجري داخل حدود الدولة.
وخلاصة هذا كله أن التعليم الأولي والثانوي مهما يكن وفي أي بيئة من البيئات المصرية الأجنبية القائمة في مصر، يجب أن يخضع لإشراف الدولة، وأن تتولاه وزارة المعارف مباشرة أو تتبعه بالإشراف والتفتيش والامتحان، فيجب إذن أن يكون لوزارة المعارف مفتشون يلاحظون التعليم الأولي والثانوي في الأزهر، ويرفعون تقاريرهم عنه إلى الوزارة، ويجب أن تشترك وزارة المعارف في الامتحان لهذين النوعين من التعليم اشتراكًا يمكِّنها من الإشراف عليه والرضا عنه.
هذه أمور تفرضها طبيعة الأشياء، ونحن نطلبها بالقياس إلى الأزهر كما نطلبها بالقياس إلى التعليم الحر المصري والأجنبي.
وهناك شيء يجعل حاجة الأزهر إلى إشراف الدولة على تعليمه الأولي والثانوي ضرورة ماسة في هذا الطور من أطوار الحياة المصرية، وهو أن الأزهر بحكم تاريخه وتقاليده وواجباته الدينية بيئة محافظة تمثل العهد القديم والتفكير القديم أكثر مما تمثل العهد الحديث والتفكير الحديث.
ولا بد من تطور طويل دقيق قبل أن يصل الأزهر إلى الملاءمة بين تفكيره وبين التفكير الحديث، والنتيجة الطبيعية لهذا أننا إذا تركنا الصبية والأحداث للتعليم الأزهري الخالص، ولم نشملهم بعناية الدولة ورعايتها وملاحظتها الدقيقة المتصلة، عرَّضناهم لأن يصاغوا صيغة قديمة، ويكونوا تكوينًا قديمًا، وباعدنا بينهم وبين الحياة الحديثة التي لا بد لهم من الاتصال بها، والاشتراك فيها، وعرضناهم لطائفة غير قليلة من المصاعب التي تقوم في سبيلهم حين يرشدون، وحين ينهضون بأعباء الحياة العملية.
فالمصلحة الوطنية العامة من جهة، ومصلحة التلاميذ والطلاب الأزهريين من جهة أخرى، تقتضيان إشراف وزارة المعارف على التعليم الأولي والثانوي في الأزهر.
شيء آخر لا بد من التفكير فيه، والطلب له، وهو أن هذا التفكير الأزهري القديم قد جعل من العسير على الجيل الأزهري الحاضر إساغة الوطنية والقومية بمعناهما الأوروبي الحديث.
وقد سمعت منذ عهدٍ بعيد صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر يتحدث إلى المسلمين من طريق الراديو في موسم من المواسم الدينية فيعلن إليهم أن محور القومية يجب أن يكون القبلة المطهرة، وهذا صحيح حين يتحدث شيخ من شيوخ المسلمين إلى المسلمين، ولكن الشباب الأزهريين يجب أن يتعلموا في طفولتهم وشبابهم أن هناك محورًا آخر للقومية، لا يناقض المحور الذي ذكره الشيخ الأكبر، وهو محور الوطنية التي تحصرها الحدود الجغرافية الضيقة لأرض الوطن.
ولست أرى بأسًا على الشيخ الأكبر، ولا على زملائه من أن يتصوروا القومية الإسلامية كما تصورها المسلمون منذ أقدم العصور إلى هذه الأيام.
ولكن هناك صورة جديدة للقومية والوطنية قد نشأت في هذا العصر الحديث، وقامت عليها حياة الأمم وعلاقاتها، وقد نُقلت إلى مصر مع ما نُقل إليها من نتائج الحضارة الحديثة، فلا بد من أن تدخل هذه الصورة الجديدة في الأزهر، وهي إنما تدخل فيه من طريق التعليم الأولي والثانوي على النحو الذي رسمناه، وبالطريقة التي رسمناها، وبإشراف السلطان العام.
والنتيجة لهذا التفصيل الطويل أن الدولة هي المسئول الأول، والمسئول الأخير، والمسئول قبل الأفراد والجماعات، وبعد الأفراد والجماعات، عن تكوين العقلية المصرية تكوينًا يلائم الحاجة الوطنية الجديدة التي صورناها تصويرًا نظن أنه دقيق كل الدقة، ملائم كل الملاءمة، حين قلنا إنها تنحصر في تثبيت الديمقراطية وحياطة الاستقلال.