التعليم الأوليُّ ركنٌ أساسيٌّ من أركان الديمقراطية
لست في حاجةٍ إلى الإطالة في إثبات أن التعليم الأولي والإلزامي ركن أساسي من أركان الحياة الديمقراطية الصحيحة، بل هو ركن أساسي من أركان الحياة الاجتماعية مهما يكن نظام الحكم الذي تخضع له، فهذا شيء قد فرغ الناس منه منذ عصر طويل، وقد فرغت منه مصر أيضًا منذ صدر الدستور الذي فرض هذا التعليم الإلزامي فرضًا، وكلَّف الدولة أن تكفله، وأوجب على الآباء أن يرسلوا أبناءهم إليه. ونحن إذا أردنا أن نختصر الأغراض الأساسية التي يجب على الديمقراطية أن تكفلها للشعب، لم نجد أوجز ولا أشمل ولا أصح من هذه الكلمات التي ذاعت في الديمقراطية الفرنسية منذ عامين، وهي أن النظام الديمقراطي يجب أن يكفل لأبناء الشعب جميعًا الحياة والحرية والسلم، وما أظن الديمقراطية تستطيع أن تكفل غرضًا من هذه الأغراض للشعب إذا قصرت في تعميم التعليم الأولي وأخذ الناس جميعًا به طوعًا أو كرهًا.
فلأجل أن تكفل الديمقراطية للناس الحياة، يجب قبل كل شيء أن تكفل لهم القدرة على الحياة؛ أي أن تكفل لهم التصرف في هذه المذاهب المختلفة التي تمكِّن الفرد من أن يكسب قوته دون أن يلقى في ذلك مضارة أو عنتًا، ومن الطبيعي أن الحياة التي يجب أن تكفلها الديمقراطية للناس إنما هي الحياة القابلة للتطور والرقي من ناحيتها المادية، ومن ناحيتها المعنوية، فليس يكفي أن يكون الفرد قادرًا على أن يتنفس ويتحرك ليس غير، وليس يكفي إذا بلغ الفرد طورًا من أطوار الحياة المادية أن يقف عنده ولا يعدوه حتى يموت، وإنما يجب أن تمكنه الديمقراطية من أن يجوزه إلى طورٍ آخر خير منه، فمن زعم أن الديمقراطية تستطيع أن ترضى عن نفسها، وترى أنها أدت إلى الشعب ما يجب أن تؤدي إليه حين تضمن للأفراد ما يقيم أودهم، ويعصمهم من الموت جوعًا، فقد أخطأ خطأً شنيعًا، يجب أن تضمن الديمقراطية للناس ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عادية الجوع، ولكن يجب أن تضمن لهم مع ذلك القدرة على أن يصلحوا أمرهم، ويتجاوزوا ما يقيم الأود إلى ما يتيح الاستمتاع بما أباح الله للناس من لذةٍ ونعيم في هذه الحياة.
وليس ينبغي أن يُطلَب إلى الديمقراطية أن توزع على الناس أقواتهم، وتشيع فيهم اللذة والنعيم وهم هادئون مطمئنون، فهذا شيء لن يتاح لنظام إنساني، وإنما موعد الناس به الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين، إنما الذي يُطلب إلى الديمقراطية ويُفرض عليها أن تمنح أفراد الشعب وسائل الكسب التي يسعون بها في الأرض، ويلتمسون بها الرزق، وأن تزيل من طريقهم ما قد يقوم فيها من العقبات، التي تنشأ عن الظلم والجور، وعن التحكم والاستبداد، وعن مقاومة الطبيعة نفسها لتصرف الإنسان، وأول وسيلة من وسائل الكسب التي يجب على الديمقراطية أن تضعها في أيدي الأفراد إنما هو التعليم الذي يمكِّن الفرد من أن يعرف نفسه، وبيئته الطبيعية والوطنية والإنسانية، وأن يتزيد من هذه المعرفة، وأن يلائم بين حاجته وطاقته وما يحيط به من البيئات والظروف.
وقد لا يكون من المعقول، أو من الميسور، أن يُطلب إلى الديمقراطية منح الأفراد كل ما يحتاجون إليه أو يقدرون عليه من هذه الوسيلة، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الديمقراطية ملزمة أن تمنح الأفراد حظًّا يسيرًا من هذه الوسيلة لا سبيل إلى العيش بدونه في أي بيئة متحضرة.
فالدولة الديمقراطية ملزمة أن تنشر التعليم الأولي، وتقوم عليه لأغراضٍ عدة؛ أولها: أن هذا التعليم الأولي أيسر وسيلة يجب أن تكون في يد الفرد ليستطيع أن يعيش، والثاني: أن هذا التعليم الأولي أيسر وسيلة يجب أن تكون في يد الدولة نفسها لتكوين الوحدة الوطنية، وإشعار الأمة حقها في الوجود المستقل الحر، وواجبها للدفاع عن هذا الوجود.
والثالث: أن هذا التعليم الأولي هو الوسيلة الوحيدة في يد الدولة لتمكِّن الأمة من البقاء والاستمرار؛ لأنها بهذا التعليم الأولي تضمن وحدة التراث الوطني اليسير الذي ينبغي أن تنقله الأجيال إلى الأجيال، وأن يشترك في تلقيه ونقله الأفراد جميعًا في كل جيل.
وليس الأفراد في حاجةٍ إلى دفع الضرائب التي تمكِّن الدولة من البقاء والعمل، إذا لم تضمن لهم الدولة أيسر ما يحتاجون إليه ليعيشوا، وليكونوا أمة واحدة قادرة على الوجود ثم على الخلود.
ليس من شك إذن في أن من أبسط واجبات الدولة وأوضحها وأدناها إلى البداهة أن تنشر التعليم الأولي وتقدم عليه وقد فرض الدستور عليها ذلك، فتقصيرها في ذاته يلزمها إثم التفريط في ذات الدستور.
وإذا كانت الديمقراطية مكلفة أن تضمن للأفراد الحرية كما ضمنت لهم الحياة، فإن الحرية لا تستقيم مع الجهل، ولا تعايش الغفلة والغباء، فالدعامة الصحيحة للحرية الصحيحة إنما هي التعليم الذي يُشعر الفرد بواجبه وحقه، وبواجبات نظرائه وحقوقهم، والذي يشيع في نفس الفرد هذا الشعور المدني الشريف، شعور التضامن الاجتماعي الذي يجعله حريصًا على احترام حقوق نظرائه عليه ليحترم نظراؤه حقوقه عليهم.
وإذا كانت الديمقراطية مُكلَّفة أن تضمن للناس السلم التي تحميهم من أن يعدو بعضهم على بعض في داخل حدودهم الجغرافية، والتي تحميهم من أن يعدو عليهم الأجنبي، فإن هذه السلم لا تستطيع أن توجد؛ لأن الدولة تريدها على الوجود، إنما هي محتاجة إلى مادة توجدها وأداة تحققها. والمواطنون الأحرار وحدهم القادرون على إيجاد هذه السلم، هم مادتها وهم أدواتها، ذلك أن الرجل الذي لا حظ له من الحرية عاجز بطبعه عن إيجاد السلم وعن حمايتها، بل عاجز بطبعه عن تصور السلم، إنما هو قادر على أن يعيش ذليلًا، وعلى أن يكون عاديًا باغيًا إن أتيحت له فرصة البغي والعدوان، فلن تستطيع الديمقراطية أن تكفل للناس حياة ولا حرية ولا سلمًا إلا إذا كفلت لهم تعليمًا يتيح لهم الحياة، ويبيح لهم الحرية، ويمكنهم من السلم. ولكن ما هذا التعليم الذي يجب أن تذيعه الدولة الديمقراطية في الناس وتأخذهم به لتكفل لهم هذه الأغراض الثلاثة التي أشرنا إليها.
أيسر هذا التعليم هو هذا الذي يمكن الفرد من أن يعرف نفسه وبيئته الطبيعية والوطنية، ويلائم بين حاجاته وبين هذه البيئة الطبيعية والوطنية، وإذا أردنا تفصيل هذا المقدار اليسير من العلم فنظن أن الفرد محتاج قبل كل شيء إلى أن يقرأ ويكتب ويحسب، ويعمل أيسر العمل بعقله ويديه، ليستطيع أن يفهم عن نظرائه، وليستطيع نظراؤه أن يفهموا عنه، ويجب أن يعرف الفرد أنه عضو في بيئة وطنية هي الأمة، وأن هذه الأمة قد كانت قبل أن يوجد، وهي كائنة أثناء وجوده، وستكون بعد أن يموت، وإذن فلا بد من أن يعرف تاريخها معرفة يسيرة، ولا بد من أن يعرف حالها الحاضرة، ونظمها القائمة، ولا بد من أن يشعر بآمالها، ويتصور مستقبلها على وجهٍ ما.
ثم إن هذه الأمة لا تحيا في الخيال، ولا تضطرب في الوهم، ولكن الله قد قسم لها مكانًا من الأرض أقرها فيه، ولهذا المكان حدوده الجغرافية التي تحصر أقطاره، والتي يستطيع أفراد الأمة أن يضطربوا بينها، ويعملوا وهم آمنون مطمئنون في حدود ما ورثوا من عادةٍ وتقليد، وما شرعوا من نظامٍ وقانون.
فإذا تجاوزوا هذه الحدود كانت لهم سيرة أخرى غير سيرتهم في داخلها وخضعوا لنظم أخرى لم يشرعوها، ولعاداتٍ وتقاليد لم يرثوها عن آبائهم، وقد يسمعون لغة غير اللغة التي يتكلمونها داخل حدودهم، وهم على كل حال مضطرون إلى كثيرٍ من الأوضاع وألوان العيش التي تضطر نفوسهم إلى شيء من الحرج، وتثير فيها شيئًا من الاستغراب، وجملة القول أنهم غرباء إذا تجاوزوا هذه الحدود، فيجب إذن أن يعرف الفرد هذه الرقعة من الأرض التي قسمت لأمته فأصبحت لها وطنًا تحبه وتؤثره، وتفتديه بالأنفس والأموال، وتحتمل الميسور وغير الميسور من الجهد في سبيل حمايته من العاديات، لا لأنها تعيش فيه فحسب، بل لأنه مهد حضارتها، ومستقر أجيالها القديمة، فأرضه مكونة من رفات الأجيال، فالتفريط فيها تفريط في الآباء والأجداد، وإباحة لحرمتهم التي يجب ألا تباح، وهذه الأرض هي مصدر الخير الذي يعيش منه الأفراد، ومصدر النعيم الذي يستمتعون به فهم حراص عليها. ولهذا ولأكثر من هذا هم حراص عليها لأنها ميدان حياتهم ونشاطهم، ومسرح آمالهم ورجائهم، ومستقر حضارتهم ومدنيتهم، والملجأ الأمين لكل ما يحبون ويؤثرون، ولهذه الأمة لغة تمكن أفرادها من أن يفهم بعضهم بعضًا، ويفضي بعضهم إلى بعض بذات نفسه ودخيلة ضميره وبأيسر حاجاته وأعسرها، فلا بد إذن من أن يتعلم الفرد لغة أمته ويتقنها ليحقق هذه الفكرة اليسيرة الأولية، وهي: أنه حيوان اجتماعي ناطق، وإذن فالمقدار اليسير الذي يجب أن يشترك المصريون جميعًا في العلم به، وفي العلم به على أحسن وجه ممكن، هو تاريخ مصر وتقويمها ولغتها، ثم نظامها السياسي والمدني والاجتماعي الذي تقوم عليه حياتها وتصلح عليه أمورها، ثم هذا المقدار اليسير الذي يمكن الفرد من أن يعمل بعقله ويده إلى حدٍّ ما.
وواضح جدًّا أن أمر الدين هنا كأمره في الفصل الماضي: يختلف باختلاف النظرة التي تنظرها إليه الدولة؛ فإن رأت إقامة التعليم على الفكرة المدنية الخالصة تركت أمر الدين إلى الأسرة، ولم تقم في سبيل تعليمه المصاعب والعقبات، وإن رأت إقامته على الفكرة المدنية الدينية قسمت للتعليم الديني مكانه من هذا البرنامج.
وليست الدولة مسئولة عن تكوين عقل الصبي وقلبه فحسب، بل هي مسئولة أيضًا، ومسئولة في مصر بنوعٍ خاص، عن حماية جسمه من الآفات والعلل، وتمكينه من النمو المطرد الذي لا يتعرض لاضطراب ولا فساد، فلا بد من أن يكون في التعليم الأولي مكان ممتاز للتربية البدنية يضمن للأمة تكوين أجيال صحيحة الأجسام والعقول معًا.
وقد يستبيح المشرفون على التعليم الأولي لأنفسهم في بعض البلاد المتحضرة شيئًا من الإهمال في حق التربية البدنية والنفسية، ويكتفون بالفراغ للتعليم وتربية العقل؛ لأنهم يعتمدون على الأسرة في تحقيق ما لم يحققوا، والنهوض بما لم ينهضوا به من تربية الأجسام والأخلاق، ولكن هذا النحو من الإهمال مستحيل في مصر الآن على أقل تقدير؛ لأن الأسرة المصرية في هذا الجيل والجيل الذي يليه بعيدة كل البعد عن أن تستطيع النهوض بأعباء التربية الصالحة للجسم والخلق، ولا بد من مرور زمن طويل قبل أن تستطيع الدولة الاعتماد على الأسرة في شئون التربية، وانتظار معونتها على تكوين الأحداث والشباب.