مهمة التعليم الأولي أخطر من محو الأمية
وقد قلت إن المنهاج المكتوب والبرنامج المرسوم ليسا هما الغاية التي نقصد إليها أو نكتفي بها، وإنما الغاية هي تكوين الصبي الصالح للنمو، القادر على أن يكون شابًّا نافعًا لنفسه وأمته.
وليس سبيل ذلك أن يكون المنهاج جيدًا، والبرنامج متقنًا فحسب، وإنما سبيل ذلك أن يُنفَّذ المنهاج الجيد والبرنامج المتقن تنفيذًا صالحًا منتجًا.
والسبيل الوحيد إلى ذلك هو المعلم الصالح لفهم المنهاج والبرنامج وتنفيذهما على أحسن وجهٍ وأكمله.
فإذا أرادت الدولة أن تُعنَى بالتعليم الأولي فلا بد لها من العناية بالمعلم الأولي، وكل تعليم مهما يكن فرعه وطبقته لا يستقيم أمره إلا إذا نهض به المعلم الكفء، ولكن الكفاية في المعلم الأولي لها خطر آخر ليس لكفاية غيره من المعلمين؛ فالمعلم الأولي أمين على أبناء الشعب، وهو مسئول عن هذه الأمانة أمام الشعب من جهة، وأمام الدولة من جهةٍ أخرى.
مسئول أمام الشعب لأن الآباء والأمهات إذا أرسلوا أبناءهم إلى المدارس انتظروا أن يخرجوا منها وقد نمت أجسامهم وعقولهم، وصفت قلوبهم، واستقامت أخلاقهم، وأصبحوا خيرًا منهم حين دخلوا هذه المدارس، فإذا رُدَّ إليهم أبناؤهم على غير هذه الحال، إذا رُدَّ إليهم أبناؤهم مرضى وقد كانوا ينتظرون لهم الصحة والنمو، إذا رُدَّ إليهم أبناؤهم جهالًا وقد كانوا ينتظرون لهم المعرفة والفهم، إذا رُدَّ إليهم أبناؤهم معوجَّة أخلاقهم سيئة سيرتهم وقد كانوا ينتظرون لهم استقامة الخلق وحسن السيرة؛ كان من حقهم أن يسألوا المعلم عن هذا كله؛ لأنه تلقى أبناءهم صالحين للتطور والرقي فأفسد حين كان يُنتَظر منه الإصلاح. وهو مسئول عن هذه الأمانة أمام الدولة لأنها حين دفعت إليه أبناء الشعب قد كلفته أن يهيئهم ليكونوا أعضاء صالحين مصلحين في البيئة التي يعيشون فيها، قادرين على احتمال الأمانة الوطنية التي يتلقونها من التعليم الأولي، والتي تعدهم لحماية الوطن وإقرار الأمن والعدل فيه، وتمكينه من الرقي والطموح إلى حالٍ خير من الحال التي هو فيها.
فإذا رد المعلم الأولي إلى الدولة صبية عاجزين، قد فترت هممهم، وضعفت قلوبهم، وقصرت عقولهم عن أيسر ما ينبغي لها من حسن الفهم والحكم والتقدير، كانت الدولة خليقة أن تحاسب هذا المعلم؛ لأنه تلقى منها مادة صالحة فأفسدها، ولم يهيئها للمهمة التي يجب أن تهيأ لها.
وإذا كان المعلم الأولي أمينًا على أبناء الشعب، مسئولًا عن هذه الأمانة الثقيلة أمام الشعب من جهة، وأمام الدولة من جهةٍ أخرى، فمن حقه على الشعب والدولة أن يجد عندهما المعونة على النهوض بهذه الأمانة الثقيلة التي يفرضانها عليه ويسألانه عنها.
وهذه المعونة ذات أوجهٍ ثلاثة كلها خليق بالعناية والرعاية: فأولها أن الدولة ملزمة أن تهيئ المعلم تهيئة صالحة لينهض بهذه الأمانة الثقيلة على أحسن وجه، ومعنى ذلك أن الدولة يجب أن تعنى بالمدارس والمعاهد التي تخرج للتعليم الأولي رجاله.
ومهما تبذل الدولة في ذلك من جهد، ومهما تنفق في سبيله من مال، فلن تبلغ من ذلك ما ينبغي؛ ذلك لأن هذه المدارس هي التي تخرج الأمناء الذين نكل إليهم أبناءنا، وتكل الدولة إليهم قوام الحياة الوطنية ومادتها، وقد تعودنا في مصر أن نحقر أمر التعليم الأولي، وأمر الذين ينهضون به ويفرغون له، وما أحسب أننا نخطئ في شيءٍ كما نخطئ في هذه الخطة التي مضينا عليها من ازدراء التعليم الأولي ومعلميه.
لا بد من أن تكون مدارس المعلمين صالحة كأحسن ما يكون الصلاح، في حياتها المادية وفي حياتها المعنوية، بحيث لا يعيش الطلاب فيها عيشة ابتذال وهوان، ولا يشعرون فيها بأنهم عيال على الدولة، وبأنهم طبقة منحطة متواضعة من طبقات الشعب، فإنك تطلب إلى المعلم الأولي أن يبث في نفس الطفل العزة والكرامة وحب الحرية والاستقلال، فيجب أن تشعره العزة والكرامة، وتشربه في قلبه حب الحرية والاستقلال؛ لأن الرجل الذليل المهين لا يستطيع أن ينتج إلا ذلًّا وهوانًا، ولأن الرجل الذي نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية واستقلالًا.
إن الشعب الذي يريد أن ينشئ جيلًا صالحًا خليق قبل كل شيء بأن يفكر في المعلمين الذين ينشئون له هذا الجيل.
وليس يكفي أن تكون حياة المدرسة صالحة من الناحية المادية والمعنوية، بل يجب أن يكون التعليم فيها صالحًا أيضًا، فكما أن الذلة لا تنتج عزة، فكذلك الجهل لا ينتج علمًا.
وما ينبغي أن تكلف المعلم الأولي تعليم الصبية تاريخ وطنهم وهو يجهل هذا التاريخ أو لا يعرفه إلا مشوهًا منقوصًا، وما ينبغي أن تكلفه تعليم الصبية جغرافيا وطنهم وهو يجهل هذه الجغرافيا، ولا يعرف حدود الوطن ولا أقطاره.
وقل مثل ذلك في اللغة، وقل مثل ذلك في النظام، وقل مثله في الدين إن أردت أن يكون الدين جزءًا من التعليم الأولي.
وليس صحيحًا أن التعليم الأولي في بلدٍ كمصر إنما هو محو الأمية، وجعل أبناء الشعب قارئين كاتبين في أقصر وقت ممكن، بحيث يُكتفَى من المعلم بما كنا نكتفي به منذ حين من القدرة على تعليم الصبية القراءة والكتابة وأوليات الحساب.
فإن هذا النوع من التعليم الذي لا حظ له من نضج، ولا من قدرة على المقاومة والاستقرار والثبات، يوشك أن يكون أقرب إلى الشر منه إلى الخير؛ فإن الصبي الذي يلم بالقراءة والكتابة والحساب ثم يُدفع إلى ميادين الحياة العملية دون أن يمضي في فرعٍ آخر من فروع التعليم، هذا الصبي بين اثنتين: فإما أن تشغله الحياة وصروفها عما تعلم في الكتاب فينساه ويرتد جاهلًا كما كان، واهيًا كما بدأ، وإذا هو قد أضاع وقته ووقت معلميه في المدرسة، وإما أن يستبقي علمه بالقراءة والكتابة، وإذا هو يقرأ كل ما يقع إليه في غير تمييزٍ ولا اختيار، وإذا عقله مستعد لأن يتخذ صورة ما يقرأ على اختلافه وتباينه، وعلى اضطرابه وتناقضه.
وإذا هو ينشأ ضعيف العقل، فاسد الرأي، مشوَّه التفكير، عاجزًا عن الفهم والحكم، مستعدًّا للتأثر بكل ما يلقى إليه، والاستجابة لكل ما يدعى إليه، وهذا النوع من الشباب خطر على نفسه وعلى أمته؛ لأنه خطر على النظام الاجتماعي دائمًا، فيجب أن ننزع من رءوسنا فكرة القناعة بالقراءة والكتابة والحساب في التعليم الأولي، وفكرة الاكتفاء بمحاربة الأمية؛ فإنك لا تحاربها ولا تمحوها بهذا التعليم اليسير، وإنما تؤجل سيطرتها على الأفراد لشر منها للتورط في كثيرٍ من ألوان الفساد الاجتماعي على غير فهمٍ ولا علمٍ ولا تمييز.
وإذا انتزعنا من رءوسنا هذه الفكرة، واقتنعنا بأن التعليم الأولي أهم وأعمق وأقوم من تعليم القراءة والكتابة والحساب، فقد يجب علينا ألا نكتفي بالمعلم الأولي كما هو الآن، وبأن نكوِّن جيلًا من المعلمين الأولين يعرفون أكثر من القراءة والكتابة والحساب، ويقدرون على أن يعلِّموا الصبية أشياء أخرى إلى القراءة والكتابة والحساب.
وقد يراني بعض الناس غاليًا إذا جعلت الشهادة الثانوية شرطًا أساسيًّا لدخول الطلاب مدارس المعلمين الأولية، ولكن هذا هو الذي تأخذ به الديمقراطية الحديثة، وهو الذي لا بد لنا من الأخذ به إن أخذنا تكوين الأجيال المقبلة بالحزم والجد.
وأنا أفهم ألا يشترط التعليم الجامعي للنهوض بأعباء التعليم الأولي، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن هذا التعليم الجامعي إذا أضيفت إليه أصول التربية التي تتصل بحياة الطفل وتنشيئه كان أقرب إلى النفع منه إلى أي شيءٍ آخر.
وأنا مع ذلك لا ألح في أن يتخرج المعلم الأولي من الجامعة، ولكن ألح في أن يظفر بالشهادة الثانوية ليحصل على مقدارٍ صالح من الثقافة العامة، ثم يفرغ بعد ذلك في مدرسة المعلمين لشئون التربية والتعليم عامين أو ثلاثة أعوام.
والوجه الثالث الذي لا بد من العناية به بالقياس إلى المعلم الأولي نتيجة لازمة لهذين الوجهين الماضيين.
فالمعلم الأولي في مصر يشغل في حياتنا الاجتماعية مركزًا متواضعًا جدًّا، متواضعًا من الناحية المادية؛ لأن الدولة تقتر عليه في الرزق، ولا تأجره إلى أجرًا يمكنه مما يقيم أوده ليس غير.
والمعلم الأولي إنسان كغيره من الناس، له حقه المطلق في أن يعيش، وفي أن يعيش عيشة راضية إلى حدٍّ ما، وفي أن يبسم للأمل، ويبسم له الأمل، وفي أن يربي أبناءه ويعلمهم خيرًا مما ربي هو ومما تعلم، وفي أن يطمع لهم في مراكز خير من مركزه، ولا بد من أن تمكنه حياته من ذلك، ومن أن تأجره الدولة أجرًا يلائم عمله الخطير من جهة، وحقه الطبيعي وأمله المعقول من جهةٍ أخرى.
وإذا غيرت الدولة رأيها فيه ونظرها إليه، وفتحت له أبواب الحياة الراضية، والأمل الباسم، تغير فيه رأي الشعب أيضًا، وتغير نظر الشعب إليه، وحكمه عليه، وظفر بحظٍّ معقول من الكرامة والاحترام بين مواطنيه. وكما أننا نريد أن يشعر الطالب في مدرسة المعلمين بأنه كغيره من المصريين، له الحق مثلهم في أن يكون عزيزًا كريمًا، فنحن نريد أن يشعر المعلم حين يؤدي واجبه بهذه العزة والكرامة ليكون مثالًا لهما أمام التلاميذ.
ومن أغرب التناقض أن نزدري المعلم الأولي، أو ننظر إليه نظرة عطف وإشفاق خير منهما الازدراء، ثم نطلب إليه ونلح عليه في أن يشيع في نفوس أبنائنا العزة والكرامة والحرية والاستقلال.
لا أعرف شرًّا على الحياة العقلية في مصر من أن يكون المعلم الأولي كما هو الآن عندنا سيئ الحال منكسر النفس، محدود الأمل، شاعرًا بأنه يمثل أهون الطبقات على وزارة المعارف شأنًا.