ضرورة الاقتصاد ومراعاة ظروف البيئة
وأمر التعليم الأولي عندنا غريب من وجهٍ آخر، محتاج إلى التقويم حقًّا، فقد لا يكون من العدل ولا من الإنصاف أن تُتهم الدولة في مصر بالبخل على التعليم الأولي، أو التقصير في العناية بنشره وإذاعته كما يريد الدستور، ولكن الدولة تخلق لنفسها في سبيل ذلك ألوانًا من المصاعب والمشكلات تكاد تفسد عليها جهدها كله؛ لأنها تستنفد أكثر ما ترصد الدولة من المال لهذا التعليم دون أن تغني في ذلك غناء.
ذلك أن وزارة المعارف قد وضعت في رأسها، أو وضع العهد القديم في رأسها للمدرسة الأولية صورة أقل ما توصف به أنها عقيمة مضيعة للمال والجهد في غير نفع، محولة للتعليم الأولي عن طريقه الصالحة المنتجة، إلى طريقٍ أخرى معوجة ملتوية، أولها الخطأ وآخرها الفساد.
فوزارة المعارف تريد أن تكون المدرسة الأولية بناء على الطراز الأوروبي الحديث، فهي إن أرادت أن تنشئ مدرسة فكرت قبل كل شيء في البناء الصالح لتستأجره أو لتقيمه ثم فكرت في تأثيثه الحديث، وأنفقت في هذا كله مقدارًا غير قليل من المال، لا أعرف الآن ما هو بالضبط، ولكني أحقق أنه أكثر مما ينبغي، وأكبر الظن أن ما تنفقه وزارة المعارف في بناء مدرسة وتأثيثها يكفي لإقامة مدارس وتأثيثها إذا نظرت الوزارة إلى هذا الأمر نظرة مصرية معقولة، لا نظرة أوروبية غالية.
فليس المهم أن يكون البناء أنيقًا، ولا أن يكون الأثاث حديثًا، وإنما المهم أن يكون البناء مستكملًا للقسط المعقول من الشروط الصحية، وأن يكون الأثاث نظيفًا، وليس على الدولة ولا على الشعب بأس من أن يكون البناء والأثاث متواضعين.
وربما كان البأس كل البأس فيما نحن فيه من التأنق والإسراف؛ ذلك أن هذا التأنق يباعد بين البيئة المدرسية والبيئة المنزلية مباعدة خطرة على الأخلاق والنظام جميعًا.
فأنا أفهم أن يذهب ابن القرية إلى المكتب فيرى فيه نظامًا ونظافة خيرًا مما يرى في منزله، ولكني لا أفهم أن يذهب ابن القرية إلى المكتب فيرى فيه تأنقًا وترفًا، ويحيا فيه حياة تبغض إليه حياته الغليظة الخشنة التي يحياها آخر النهار وطول الليل، والتي سيحياها بعد أن يفرغ من التعليم ويعود إلى عيشة أهله وذويه، ذلك خليق أن يزهد الصبي في حياته المتواضعة، وأن يبغض إليه ما ألف، وأن يطمعه فيما قد لا يقدر عليه وأن يضطر آخر الأمر إلى شيءٍ من السخط والحنق والضيق لا يستقيم عليه النظام، وأن يجعل منه عنصرًا خطرًا من عناصر الثورة التي لا تأتي من رويةٍ وتفكير وتطور معقول، وإنما تأتي من السخط والحنق والضيق والحسد، وحسبك بهذا كله شرًّا.
فلو أن وزارة المعارف أنفقت هذا المال الكثير الذي تبذله في بناء المدارس الأنيقة والمكاتب المترفة، لو أنها أنفقت هذا المال في بناء المدارس المتواضعة الملائمة لحياة المصريين في مدن مصر وقراها؛ لأفادت غير قليل في نشر التعليم الأولي والإصلاح من أمر المعلمين، فإذا أضفنا إلى ذلك أن نشر التعليم الأولي عندنا ضرورة؛ لأن كثرة الشعب لا تزال جاهلة، ولأنها إلى المعرفة أحوج منها إلى البناء المترف الأنيق، كان هذا خليقًا أن يجعل وزارة المعارف تعيد النظر في أمر التعليم الأولي كله؛ في مدارسه ومكاتبه، وفي مناهجه وبرامجه، وفي معلميه، وما يحتاجون إليه من المدارس والمعاهد.
وأي وقت أصلح لإعادة النظر في شئون التعليم الأولي من هذا الوقت الذي تستأنف فيه مصر حياة جديدة في عهدٍ جديد.