مرحلة التعليم الأولي لا تكفي
وإذا أتم الصبية تعليمهم الأولي كما ترسمه المناهج والبرامج، فمن أشد الخطأ وأشنعه أن تكتفي الدولة بذلك أو تطمئن إلى أنها قد أدت إلى هؤلاء الصبية حقهم، ونهضت بما تفرضه الديمقراطية من حماية أبناء الشعب من الجهل، وتزويدهم بأيسر حظ ممكن من العلم.
قد يقال إن الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، ولكن الحجر إذا تُرك معرضًا لما تنسجه عليه ريح الشمال وريح الجنوب كما يقول الشاعر القديم، كان خليقًا أن تطمس رسومه، وتستخفي معالمه، ويظهر للعين كما كان قبل أن تمسه الأيدي بالنقش، خلوًا من كل رسم، فلا بد إذن من تعهده وتنقيته بين حينٍ وحين، حتى تظل الرسوم بادية واضحة، لا يسترها غبار، ولا يخفيها نسيج الريح.
والذين يشبِّهون نفس الصبي بالحجر الذي يقبل الرسم ويحفظه خليقون أن يمضوا بهذا التشبيه إلى غايته، وألا يطمئنوا إلى مجرد التعليم، كما لا ينبغي الاطمئنان إلى مجرد النقش على الحجر، فإن خطوب الحياة ومشاغلها خليقة أن تنسج على نفس الصبي من الهموم والنسيان مثل ما تنسجه جنوب امرئ القيس وشمأله على ما ترك الأحبة من الرسوم والآثار. فالظفر بشهادة التعليم الأولي لا يتم هذا التعليم ولا يعفي الدولة من تبعاته؛ لأن الصبية خليقون إذا لم نتابعهم بالدرس ولم نتعهدهم بالتعليم بعد خروجهم من المكاتب، أن يجهلوا ما عرفوا وينسوا ما حفظوا، ويرتدوا أميين كما كانوا قبل أن يدخلوا المدرسة.
-
فريق يمضي في التعليم العام إلى غاياتٍ قريبة أو بعيدة.
-
وفريق يمضي إلى التعليم الفني ليتعلم مهنة من المهن يكسب بها القوت.
-
وفريق ثالث تتعجلهم الحياة فيعملون مع آبائهم وأقاربهم فيما يعملون فيه من زراعة أو صناعة أو تجارة.
فأما الفريق الأول فلندعه إلى أن نعود إليه حين نتحدث في أمر التعليم العام.
وأما الفريق الثاني فأمره إلى الذين يعنون بتنظيم التعليم الفني الذي لا نقول فيه شيئًا لأنا لا نحسن العلم به ولا القول فيه، ولكنا نستطيع أن نقول إن من الحق على الدولة لهؤلاء الصبية الذين يقصدون إلى التعليم الفني ألا تقصرهم على هذا التعليم، وأن تضيف إليه مقدارًا من الثقافة يترقى في اطراد ما أقام هؤلاء التلاميذ في مدارسهم بحيث إذا خرجوا منها ظافرين بالمهنة التي أرادوا أن يصطفوها كانوا قد أخذوا في الوقت نفسه بحظٍّ حسن من الثقافة التي تباعد بينهم وبين الجهل، وتقارب بينهم وبين المعرفة، وتزيد ما تعلموه في المدارس الأولية رسوخًا في عقولهم، وامتزاجًا بنفوسهم، وتجعلهم شبابًا لا يعملون بأيديهم ليعيشوا فحسب، ولكنهم يعملون بأيديهم وعقولهم وقلوبهم، ويجدون في هذا كله القوة لا على العيش وحده، بل على العيش والاستمتاع باللذات النقية البريئة التي يجب أن يستمتع بها الشباب.
وأما الفريق الثالث الذين لا يستطيعون أن يتجهوا إلى التعليم العام أو إلى التعليم الفني لأن ظروف الحياة تعجلهم عن ذلك، وتضطرهم إلى أن يعملوا ليعيشوا، فمن حقهم على الدولة ألا يجهلوا ما عرفوا، وألا ينسوا ما حفظوا، وألا يقفوا عند هذا الحد الذي انتهت بهم إليه المدرسة الأولية، ومن حقهم على الدولة أن تلائم بين ما يحتاجون إليه من العمل لكسب القوت وبين ما يحتاجون إليه من المضي في أسباب الثقافة إلى حدٍّ ما.
وإنما يتهيأ لهم ذلك إذا نظمت لهم الدولة دروسًا يسيرة مسائية يختلفون إليها بعد الفراغ من أعمالهم، على ألا يكون ذلك إجباريًّا خالصًا كالتعليم الأولي، ولا اختياريًّا خالصًا تُترك فيه لهم الحرية المطلقة، وإنما يكون شيئًا بين ذلك؛ فيه حظ من الحرية، وفيه حظ من الإجبار، وربما كان الترغيب والتشجيع بالمكافآت والمسابقات، وهذه الشهادات التي تغري الشباب، أقوم طريق إلى حثهم على التزيد من هذه الثقافة، والترفع عن هذا الركود العقلي الذي يضطرون إليه إذا لم تفتح الدولة لهم أبواب المعرفة ولم تهيئ لهم سبلها.
والدولة قادرة على أن تجد الوسيلة إلى تمكين هؤلاء الصبية من المضي في الثقافة على مهل، حتى إذا بلغوا سن الشباب لم يكن الأمد بعيدًا بينهم وبين إخوانهم الذين دخلوا المدارس الفنية فتثقفوا فيها بشيءٍ من المعرفة ينمي فيهم ملكة الفهم والحكم والذوق.
وليست الدولة مدينة لهؤلاء الصبية جميعًا بتنمية العقل والذوق والشعور فحسب، بل هي مدينة لهم ولنفسها وللشعب أيضًا بتنمية أجسامهم وترقية حظهم من الرياضة البدنية، وإنما يتأتى لها ذلك إذا شجعت هذه الرياضة على النحو الذي تشجع عليه الثقافة العقلية.
بهذا كله تضمن الدولة للشعب شبابًا صالحين، قادرين على أن يعيشوا أولًا، وعلى ألا يقنعوا بأدنى العيش، بل يرغبون في طيبات الحياة، ويستطيعون أن يبلغوا منها بعض ما يريدون ثانيًا، وعلى أن يفهموا معنى الوطن ويقدروا حقه عليهم ثالثًا، وعلى أن يفهموا هذه الصلة الاجتماعية التي تمكنهم من أن يعايش بعضهم بعضًا، ويزاحم بعضهم بعضًا، في غير مضارةٍ ولا تعمد للشر، ولا قصد إلى الإثم، ولا تورطٍ في الجرائم والسيئات رابعًا، وقادرين أخيرًا على أن يفهموا معنى الإنسانية ويحققوه، ويشعروا بما لهم على الأمم الأجنبية من حقٍّ وما عليهم لها من واجب، قادرين على الجملة على أن يفهموا الحياة وينهضوا بتبعاتها لأنفسهم وأسرهم ووطنهم وللناس جميعًا.
وكل تقصير في شيءٍ من ذلك تتورط فيه الدولة عن عمدٍ أو عن اضطرار يعرضها لأثقل اللوم وأشنعه، ويحملها إثم التفريط في حق الديمقراطية وفي حق الشعب، ويقيم الدليل القاطع على أنها لم تؤدِ ما خُلقت له على وجهه، وهي من أجل ذلك عرضة لأن يسخط عليها الشعب الذي يقيمها بما يبذل من جهد، وما ينفق من مال، وما يتعرض له من التضحية بالأنفس والأرواح، وعرضة لما يترتب على هذا السخط من فساد الأمن، واضطراب النظام، وهذه الثورات الاجتماعية التي إن عرف كيف تبتدئ فليس يعرف كيف تنتهي، ولا عند أي حدٍّ تقف.