خطر التعليم الأولي وأهميته
فليس التعليم الأولي إذَنْ من اليسر والسهولة بحيث نظن، ولكنه معقد أشد التعقيد، يحتاج إلى الملاحظة الدقيقة المتصلة التي تمكن المشرفين عليه من أن يلائموا بينه وبين هذه الحياة الوطنية والإنسانية، التي لا تكاد تستقر حتى تتغير وتنتقل من طورٍ إلى طور بتأثير الظروف التي نعرفها والتي لا نعرفها، فمن الواضح أن حياة الأمم في هذا العصر الحديث لا تكاد تثبت وتطمئن إلا ريثما تدفعها الحاجات المختلفة، وألوان التفكير المتباينة، إلى فنونٍ من التغير والتبدل تختلف سرعة وبطأ باختلاف حظوظ الأمم من الرقي والانحطاط.
وليس من شكٍّ في أن تصور التعليم الأولي أثناء القرن الماضي كان أيسر وأدنى إلى السذاجة منه الآن، فقد كان يمكن أن يكتفي منه بمحو الأمية، وتمكين الصبي من أن يقرأ ويكتب ويحسب، ولكن العقل يرقى من يومٍ إلى يوم وهو كلما رقي أمعن في التفكير، وكلما أمعن في التفكير استكشف كثيرًا من الحقائق المجردة التي كان يجهلها من قبل، وكلما استكشف مقدارًا من هذه الحقائق المجردة تأثرت بها الحياة العملية للناس، فاخترعت أشياء لم تكن، وتعقدت أمور الناس تعقيدًا يزداد من يومٍ إلى يوم، واضطر الناس إلى أن يلائموا بين هذه الحياة التي تتعقد في اطرادٍ وبين ما ينبغي أن يأخذوا أنفسهم به من العلم لينهضوا بما تفرض عليهم من تبعات، وما تلقي على كواهلهم من أثقال.
والتفكير الدقيق في هذه الحقيقة الواضحة خليق بعناية الذين يشرفون على أمور التعليم؛ لأنه يحقق الصلة بين الطبقة الراقية الممتازة من طبقات الشعب وبين هذه الطبقات الأخرى التي نسميها الدهماء، والتي هي مادة الحياة الوطنية وقوامها دائمًا.
فلا ينبغي أن تجعل أمور التعليم الأولي إلى قومٍ متواضعين في الثقافة متوسطين في العلم؛ لأن هؤلاء لا يقدرون على أن يفهموا هذا التعليم، ولا على أن يوجهوه وجهته التي تنبغي له، يمنعهم من ذلك قلة حظهم من العلم، وعجزهم عن أن يحيطوا بما يقتضيه تطور الحياة من تطور التعليم الذي يمكن الناس من الحياة ويعينهم على احتمال أعبائها.
وما أكثر ما نغتر بلفظ التعليم الأولي! نراه سهلًا يسيرًا ومتواضعًا ضئيلًا، فنحسب معناه كلفظه سهلًا يسيرًا ومتواضعًا ضئيلًا، وننسى أن التعليم الأولي هو إعداد كثرة الشعب للحياة من جهة، وتحميل كثرة الشعب تراث الأجيال الماضية من جهةٍ أخرى.
وليس هذا بالشيء اليسير الهين الذي يستطيع أن ينهض به أنصاف المتعلمين، إنما أمر التعليم الأولي خليق أن يكون إلى صفوة الأمة وخلاصة النابهين من علمائها وقادة الرأي فيها، أولئك الذين تتسع عقولهم لا لفهم التطور الوطني الخاص فحسب، بل لفهم التطور العام الذي تخضع له الحضارة الإنسانية كلها.
والخطر على التعليم الأولي من جهل المشرفين عليه أشد جدًّا من الخطر على التعليم العالي إذا لم يكن مديروه ومدبرو أمره من الكفاية وسعة العقول بحيث ينبغي، ذلك أن قصور المشرفين على التعليم العالي يمكن أن تُتقى شروره، وتُجتنب سيئاته؛ لأن الأساتذة الذين يفرغون لهذا التعليم قادرون على أن يصلحوا ما يكون من قصور المدبرين وعجز المديرين، فأما المعلمون الذين ينهضون بالتعليم الأولي فهم أضعف من أن يقاوموا سلطان الرؤساء، وأعجز من أن يصلحوا ما يفسده قصور المشرفين على أمور هذا التعليم، فإذا كان من الحق على الدولة أن تعنى أشد العناية بالمدارس التي تخرج المعلمين، فمن الحق عليها أن تبذل ما تملك من جهدٍ في اختيار الذين تكل إليهم إدارة هذا التعليم الأولي، بحيث تستطيع أن تطمئن إلى أن هذا التعليم لن يقصر عما يطلب إليه، ولن يجمد في طريقه ويصبح أداة صلبة لا حظ لها من المرونة، ولا قدرة لها على التطور ومجاراة الحياة.