التعليم الثانوي والغرض منه
ولندع التعليم الأولي بعد هذه الإشارات التي قد يراها بعض الناس مسرفة في الطول، ونراها نحن مسرفة في الإيجاز، بعيدة عن أن تحيط بما ينبغي أن تحيط به من الخواطر والآراء.
لندع هذا التعليم الأولي ولننتقل إلى مرحلة أخرى من مراحل التعليم، قد عنينا بها منذ أول هذا القرن عناية متصلة، ولكنها مختلفة أشد الاختلاف، مضطربة أعظم الاضطراب، منتهية إلى نتائج أقل ما توصف به أنها لم تُجدِ على البلاد نفعًا، ولم تحقق لها أملًا، ولم تبلغها بما ينبغي لها من الرقي الفكري المعقول، وهي مرحلة التعليم الثانوي.
وأول ما نلاحظه من أمر هذه المرحلة أنها مختلطة أشد الاختلاط في نفوس الذين يشرفون على التعليم عندنا، وفي الحقيقة العملية الواقعة أيضًا، فمتى يبدأ التعليم الثانوي ومتى ينتهي؟
الجواب على ذلك في مصر: إن التعليم الثانوي يبدأ بعد الفراغ من التعليم الابتدائي وينتهي حين يظفر الطالب بالشهادة الثانوية.
ولكن التعليم الابتدائي ما هو؟ وما عسى أن تكون الصلة بينه وبين التعليم الثانوي من جهةٍ وبينه وبين التعليم الأولي من جهةٍ أخرى؟
سؤال لا بد من الوقوف عنده، والتفكير فيه، والانتهاء به إلى جوابٍ مقنع، يطمئن إليه العقل وتقنع به الحاجة الوطنية العامة.
فإذا كان الغرض من التعليم الأولي في بلدٍ ديمقراطي إنما هو تزويد التلميذ بأيسر حظ من المعرفة يمكنه من أن يعرف نفسه وبيئته ووطنه ليكون عضوًا صالحًا في بيئته الاجتماعية، إذا كان الغرض من التعليم الأولي هو إعطاء الفرد مقدارًا من العلم لا يستطيع أن يعيش بدونه في بلدٍ متحضر؛ فإن الغرض من التعليم الثانوي أرقى من هذا جوهرًا، وأبعد منه مدى؛ لأنه يتجاوز بالتلميذ هذا المقدار اليسير الذي لا بد منه إلى مقدارٍ أرقى ربما استطاع الفرد أن يعيش بدونه، ولكنه إن فعل كان رجلًا من الدهماء، ضئيل الحظ من المعرفة، محدود النصيب من الثقافة، صالحًا لأدنى مراتب العيش، عاجزًا عن أن يرقى بنفسه إلى خير من هذه الحال التي قُسمت لعامة الناس.
والخطأ كل الخطأ أن ننظر إلى التعليم الثانوي على أنه لون من ألوان الترف، وفن من فنوع المتاع الذي يمكن الاستغناء عنه والاكتفاء بما هو دونه.
فليس التعليم الثانوي ترفًا ولا متاعًا، بل ليس التعليم العالي ترفًا ولا متاعًا، بل ليس هناك نوع من التعليم يمكن أن يكون ترفًا أو متاعًا.
وإنما التعليم كله على اختلاف أنواعه وفروعه ضرورة من ضرورات الحياة في أي أمةٍ متحضرة.
إنما يختلف الأمر بين التعليم الثانوي والتعليم الأولي من حيث إن التعليم الأولي ضرورة بالقياس إلى أفراد الشعب جميعًا، لا ينبغي أن يفلت منه واحد من أي طبقة من طبقات الشعب مهما تكن، على حين أن التعليم الثانوي كالتعليم الفني المتوسط ضرورة لجماعات من الشعب لا لأفراد الشعب كافة، وعلى حين أن التعليم العالي والتعليم الفني الخاص ضرورة بالقياس إلى جماعات أخرى أقل من هذه الجماعات عددًا.
فالتعليم الأولي ضرورة لعامة الشعب، والتعليم الثانوي الفني المتوسط ضرورة لأوساط الناس، والتعليم العالي الفني الخاص ضرورة لصفوة الأمة وخلاصتها ولقادة الشعب ومدبري أمره في فروع الحياة كلها على اختلافها وتباينها.
ويجب ألا يُفهم من هذا الترتيب أني أقصد به إلى ترتيب الطبقات؛ فأنا أشد الناس بغضًا لنظام الطبقات، وإنما يتفاوت الناس بكفاياتهم وحظوظهم من الثقافة والعلم والقدرة على الخدمة العامة.
فأبواب التعليم على اختلاف فروعه يجب أن تكون مفتوحة للناس على اختلاف منازلهم.
ومن أيسر الأمور وأشدها ملاءمة لطبائع الأشياء في ظل الديمقراطية أن يرقى أفراد من أشد أبناء الشعب فقرًا إلى حيث يصبحون من صفوة الأمة وقادتها ومدبري أمرها، وشئون مصر تجري والحمد لله على هذا النظام.
وإذَنْ فالتعليم الثانوي هو المرحلة التي ينتهي إليها الصبي إذا فرغ من التعليم الأولي، ثم يسلكها إذا أراد أن يتزيد من الثقافة الخالصة ويتهيأ للتعليم العالي أو التعليم الفني الخاص.
وإذَنْ فأين يقع التعليم الابتدائي بين هذين النوعين من أنواع التعليم؟ أهو آخر التعليم الأولي؟ أهو أول التعليم الثانوي؟ أهو من أجل ذلك صلة بين هاتين المرحلتين من مراحل التعليم؟
يُخيَّل إليَّ أن تاريخنا في هذا العصر الحديث وحده كفيل بالإجابة عن هذه الأسئلة، ووضع هذا الأمر في نصابه، فقد أُنشئ التعليم الحديث عندنا قبل الاحتلال الإنجليزي على نحوٍ منطقي معقول إن صدقتني الذاكرة؛ فأنشئت مدارس يبدأ فيها التلميذ بالأوليات، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يبلغ التعليم الثانوي، ثم يمضي فيه حتى ينتهي إلى غايته؛ أي أُنشئت مدارسنا على نظام المدرسة الفرنسية — الليسيه — ثم كان الاحتلال وكان تغيير النظم المصرية على اختلافها، وكان الغض من أمر التعليم ورده إلى أيسر حظ ممكن وشقه شطرين: أحدهما هذا التعليم الذي نسميه الابتدائي، والآخر التعليم الثانوي. وقد اختلفت على هذين النوعين من التعليم خطوب يعرفها الناس، ولسنا في حاجةٍ إلى تفصيلها، ولم يفكر أولو الأمر في التعليم الأولي إلا في عصرٍ متأخر، ولم يفكروا في تعميمه إلا حين أريدت مقاومة فكرة الجامعة، ولم يفكروا في جعله إلزاميًّا إلا بعد الحرب الكبرى وحين فرضت النهضة الوطنية الأخيرة ذلك فرضًا.
ومعنى هذا كله أن التعليم الابتدائي عندنا أثر من آثار الاحتلال الإنجليزي، فهو طارئ على النظام التعليمي الذي أنشأناه أحرارًا قبل الاحتلال.
ومعنى ذلك أيضًا أن هذا التعليم الابتدائي شيء مضطرب لا يقع في هذه المرحلة ولا في تلك، ولا يستطيع أن يستقل بنفسه، وإنما يجب أن يزول من حيث هو وحدة لها نظام مستقل تُتَوِّجه إجازة مستقلة، وأن يندمج في التعليم الثانوي فيصبح أولى مراحله بعد أن أصبح التعليم الأولي فرضًا على الدولة، تذيعه في جميع طبقات الشعب وتأخذ به المصريين جميعًا بحكم الدستور.
والنتيجة الطبيعية لهذا أن يوضع النظام الذي يلائم بين التعليم الأولي والتعليم الثانوي كما نتصوره ونقترحه، فيصبح من حق المصريين أن يرسلوا أبناءهم إلى مدارس التعليم العام الذي نسميه التعليم الثانوي، وأن يعفيهم ذلك من إرسال أبنائهم إلى مدارس التعليم الأولي الإلزامي؛ لأنهم سيجدون في هذا التعليم العام ما لا بد من أن يتعلمه المصريون جميعًا، فهو من هذه الجهة يغني عن التعليم الأولي.
ومن حق الذين يتمون التعليم الأولي إذا بدا لآبائهم، أو ظهر حسن استعدادهم، أن يتصلوا بالتعليم العام بحيث يُعفون من أوله، ويأخذونه من وسطه، ليمضوا مع إخوانهم فيه إلى نهايته.
ولكن هذه النهاية ما هي؟ يخيل إلى الناس أن الجواب على هذا السؤال يسير أيضًا، بل هو جواب رسمي تلقيه إلينا الدولة بهذه الشهادة الثانوية العامة أو بهذه الشهادة الثانوية الخاصة.
فالتعليم الثانوي الرسمي ينتهي متى ظفر الطالب بالإجازة التي تتيح له دخول الجامعة والمدارس الفنية الخاصة، ولكن واقع الأمر لا يتفق مع هذا النظام، ولا بد من أن نغير واقع الأمر هذا لنلائم بين نظمنا وبين منطق الأشياء.
فحامل الشهادة الثانوية يدخل الجامعة لا ليتصل فيها بالتعليم العالي، بل ليتم تعليمه الثانوي أولًا، ثم يأخذ في التعليم العالي بعد ذلك، فالطلاب يصلون إلى الجامعة ولمَّا يبلغوا حظًّا معقولًا من الثقافة الثانوية، ولمَّا يُهيَّئُوا تهيئةً حسنة لتلقي الدروس العالية، والأخذ في البحث المنتج الخصب، ولا بد للكليات من أن تمسكهم سنة في شيءٍ من التعليم هو بالتعليم الثانوي أشبه وإليه أقرب، وحقه أن يكون في المدارس الثانوية لا في الكليات.
فأنت ترى أنا لسنا غلاة ولا مسرفين، ولسنا عابثين ولا مازحين، إن قلنا إن مصر لا تعرف للتعليم الثانوي بدءًا ولا نهاية.
تبدؤه بعد الشهادة الابتدائية وحقه أن يبدأ قبلها، وتختمه بالشهادة الثانوية وحقه أن يختم بعدها.
والخير كل الخير أن تؤخذ من كليات الجامعة سنة تضاف إلى التعليم الثانوي، وأن يضم إليه هذا التعليم القلق الذي نسميه ابتدائيًّا، فيتحقق من هذا كله شطر من الحياة التعليمية للصبية والشبان يتألف من عشر سنين هي التي نخصصها للتعليم العام، وهي التي يستطيع الشاب بعدها أن يدخل الجامعة، أو المدارس الفنية الخاصة، أو أن يلتمس لنفسه ما أحب وما استطاع من سبل العيش.
وإذَنْ فلا بد من أن يعاد النظر في برامج التعليم العام من هذه الناحية الخاصة، فنأخذه على أنه وحدة لا تنقسم ولا ينفصل بعضها عن بعض؛ أولها البدء بتعلم الكتابة والقراءة وآخرها الظفر بالشهادة الثانوية، وفيما بين ذلك البدء وهذه الغاية تُقسَّم البرامج والمناهج تقسيمًا يعتمد على ما تُوصي به علوم التربية من مراعاة طاقة الصبي واستعداده ونموه الجسمي وتطوره العقلي والخلقي أيضًا.