مستقبل الثقافة بمصر مرتبط بماضيها البعيد
وأنا من أشد الناس زهدًا في الوهم، وانصرافًا عن الصور الكاذبة التي لا تصور شيئًا، وأنا مقتنع بأن الله وحده هو القادر على أن يخلق شيئًا من لا شيء.
فأما الناس فإنهم لا يستطيعون ذلك ولا يقدرون عليه، وأنا من أجل هذا مؤمن بأن مصر الجديدة لن تُبتَكر ابتكارًا، ولن تُختَرع اختراعًا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة، وبأن مستقبل الثقافة في مصر لن يكون إلا امتدادًا صالحًا راقيًا ممتازًا لحاضرها المتواضع المتهالك الضعيف.
ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب؛ لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بيننا وبين ماضينا وحاضرنا من صلة، وبمقدار ما نقيم حياتنا المستقبلة على حياتنا الماضية والحاضرة نجنب أنفسنا كثيرًا من الأخطار التي تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام، والاسترسال مع الأحلام.
ولكن المسألة الخطيرة حقًّا، والتي لا بد من أن نجليها لأنفسنا تجلية تزيل عنها كل شك، وتعصمها من كل لبس، وتبرئها من كل ريب هي أن نعرف: أمصر من الشرق أم من الغرب؟! وأنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي، فقد يظهر أن في الأرض نوعين من الثقافة يختلفان أشد الاختلاف، ويتصل بينهما صراع بغيض، ولا يلقى كلٌّ منهما صاحبه إلا محاربًا أو متهيئًا للحرب. أحد هذين النوعين هذا الذي نجده في أوروبا منذ العصور القديمة، والآخر هذا الذي نجده في أقصى الشرق منذ العصور القديمة أيضًا.
وقد نستطيع أن نضع هذه المسألة وضعًا واضحًا قريبًا يدنيها إلى الأذهان وييسرها على الألباب، فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟! وبعبارةٍ موجزة جلية: أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟!
هذه هي المسألة التي لا بد من توضيحها وتجليتها قبل أن نفكر في الأسس التي ينبغي أن نقيم عليها ما ينبغي لنا من الثقافة والتعليم.
ويُخيَّل إليَّ أن أيسر الوسائل إلى توضيح هذه المسألة وتجليتها إنما هو الرجوع إلى تاريخ العقل المصري منذ أقدم عصوره، ثم مسايرة هذا العقل في تاريخه الطويل الشاق الملتوي إلى الآن، وأول ما نلاحظه في تاريخ الحياة المصرية أننا لا نعرف أن قد كان بينها وبين الشرق البعيد صلات مستمرة منظمة من شأنها أن تؤثر في تفكيرها، أو في سياستها، أو في نظمها الاقتصادية.
وما أظن أن علماء التاريخ المصري القديم يستطيعون أن يدلونا على آثارٍ أو نصوصٍ تشهد بوجود هذه الصلات المستمرة المنظمة بين مصر في عصورها الأولى وبين الشرق الأقصى، ولعل أقصى ما يستطيعون أن يتحدثوا به إلينا في ذلك إنما هي محاولات يكاد ينم عنها التاريخ في آخر العصر الفرعوني، تظهر ميل المصريين إلى أن يستكشفوا سواحل البحر الأحمر مبعدين في ذلك بعض الشيء، ولكن في شيءٍ من الحذر والاحتياط والاستحياء. وما أظن أنهم تجاوزوا بذلك بعض المطامع الاقتصادية التي كانت تثيرها في نفوسهم بعض غلات الهند وبلاد العرب الجنوبية، فهم من هذه الناحية قد حاولوا شيئًا، ولكنهم لم يمضوا ولم يبعدوا، ولم ينظموا أي نوعٍ من أنواع المواصلات التي يمكن أن تؤثر تأثيرًا عميقًا في التفكير والسياسة والاقتصاد.
وما أظن أن الصلة بين المصريين القدماء والبلاد الشرقية تجاوزت هذا الشرق القريب الذي نسميه فلسطين والشام والعراق؛ أي هذا الشرق الذي يقع في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وليس من شكٍّ في أن الصلة بين المصريين القدماء وبين هذه الأقطار من الشرق القريب كانت قوية مستمرة منظمة إلى حدٍّ بعيد، وكانت بالغة الأثر في الحياة العقلية والسياسية والاقتصادية لهذه البلاد كلها، فأساطير المصريين تنبئنا بأن آلهتهم قد تجاوزوا الحدود المصرية، وذهبوا يحضرون الناس في أقطار الشرق هذه. وتاريخ المصريين ينبئنا بأن ملوك مصر قد بسطوا سلطانهم على هذه الأقطار أحيانًا، كما يحدثنا بأن مصر قد تعرضت لبعض الخطر السياسي في هذه البلاد.
والتاريخ المصري القديم يحدثنا أيضًا بأن مصر كانت في تلك العصور قوة أساسية من قوى التوازن السياسي الاقتصادي، لا بالقياس إلى هذه البلاد وحدها بل بالقياس إلى بلادٍ أخرى كانت مهدًا لهذه الحضارة الأوروبية التي نريد أن نعرف ما يمكن أن يكون بينها وبيننا من صلة.
ومن إضاعة الوقت وإنفاق الجهد في غير طائل أن نفصل ما كان من العلاقات بين مصر وبين الحضارة الإيجية القديمة، وما كان من العلاقات بين مصر وبين الحضارة اليونانية في عصورها الأولى، ثم ما كان من العلاقات بين مصر وبين الحضارة اليونانية في عصور ازدهائها وازدهارها منذ القرن السادس قبل المسيح إلى أيام الإسكندر.
والتلاميذ يتعلمون في المدارس أن مصر عرفت اليونان منذ عهد بعيد جدًّا، وأن المستعمرات اليونانية قد أقرها الفراعنة في مصر قبل الألف الأول قبل المسيح.
والتلاميذ يتعلمون في المدارس أيضًا أن أمة شرقية بعيدة عن مصر بعض الشيء قد أغارت عليها وأزالت سلطانها في آخر القرن السادس قبل المسيح، وهي الأمة الفارسية، فلم تذعن مصر لهذا السلطان الشرقي الأجنبي إلا كارهة، وظلت تقاومه أشد المقاومة وأعنفها مستعينة على ذلك بمتطوعة اليونان حينًا، وبمحالفة المدن اليونانية حينًا آخر، حتى كان عصر الإسكندر.
ومعنى هذا كله واضح جدًّا، وهو أن العقل المصري لم يتصل بعقل الشرق الأقصى اتصالًا ذا خطر، ولم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي، وإنما عاش معه عيشة حرب وخصام.
معنى ذلك أيضًا أن العقل المصري قد اتصل، من جهة، بأقطار الشرق القريب اتصالًا منظمًا مؤثرًا في حياته ومتأثرًا بها، واتصل، من جهةٍ أخرى، بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى اتصال تعاون وتوافق، وتبادل مستمر منظم للمنافع، في الفن والسياسة والاقتصاد.
ومعنى هذا كله آخر الأمر بديهي، يبتسم الأوروبي حين ننبئه به لأنه عنده من الأوليات، ولكن المصري والشرقي العربي يلقيانه بشيءٍ من الإنكار والازورار، يختلف باختلاف حظهما من الثقافة والعلم، وهو أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيءٍ فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط.