مشكلات التعليم العام
ولكن هذا التعليم العام كما نتصوره يثير طائفة من المشكلات لا بد من أن نقف عندها، ونفكر فيها، ونلتمس لها ما يتيسر من الحل.
فإلى من يتجه هذا التعليم؟ أيتجه إلى المصريين جميعًا فيستطيع كلٌّ منهم أن يرسل أبناءه إليه إن أراد، لا يحول بينه وبين ذلك حائل ولا تقوم دونه عقبة؟ أم هو يتجه إلى طائفةٍ بعينها من المصريين لا يجوز لأحدٍ غيرها أن يطمع فيه، أو أن يطمح إليه؟ وما عسى أن تكون هذه الطائفة؟ وبماذا يمكن أن تمتاز من بقية المصريين؟
ولنجتهد في أن نسلك إلى الجواب عن هذا السؤال طريقًا منحرفة بعض الشيء، فقد يكون ذلك أيسر وأدنى إلى الغاية، فهذا التعليم يمتاز من التعليم الأولي الإلزامي في جوهره وطبيعته كما يمتاز منه في المدة المقسومة له من حياة المتعلم، وكما يمتاز منه في الغاية التي ينتهي إليها.
فليس الغرض منه تزويد الفرد بما لا بد منه ليعيش في أمة متحضرة، ولكنه يتجاوز هذا الغرض إلى شيءٍ أرقى من ذلك وأسمى، فهو يرتقي في الثقافة إلى حيث يبلغ المعرفة من حيث هي، وإلى حيث يقصد به إلى توسيع العقل وتغذيته بألوانٍ مختلفة من العلم الإنساني قد لا يحتاج إليها الفرد من عامة الناس.
فليس من الضروري أن يعرف أبناء الشعب جميعًا مقدارًا متوسطًا من الطبيعة والرياضة والكيمياء وعلوم الحياة، وليس من الضروري أن يعرف أبناء الشعب جميعًا مقدارًا متوسطًا من تاريخ أوروبا وأمريكا، وليس من الضروري أن يعرف أبناء الشعب جميعًا لغة أجنبية أو لغتين أجنبيتين، بل تستطيع كثرة الشعب أن تعيش عيشتها الهادئة اليومية بغير هذه الألوان من العلم، وإذَنْ فطبيعة هذا التعليم العام مخالفة لطبيعة ذلك التعليم الأولي الإلزامي الذي يجب أن يشارك فيه المصريون جميعًا.
وهذا التعليم العام يهيئ الطلاب لتعليمٍ آخر أرقى منه؛ هو التعليم الجامعي أو التعليم الفني العالي، فهو إذَنْ ينتهي بهم إلى غايةٍ مخالفة للغاية التي يقصد إليها التعليم الأولي، وينشأ عن امتياز هذا التعليم في طبيعته وفي غايته أن تتكلف الدولة له جهودًا أشق وأعنف، ونفقات أكثر وأضخم مما تتكلف للتعليم الأولي؛ فتهيئة المعلم للتعليم العام أدق وأشد تعقيدًا وأكثر نفقة من تهيئة المعلم للتعليم الأولي، وإنشاء المدرسة العامة أعسر من إنشاء المدرسة الأولية؛ فهي تحتاج إلى المعامل المختلفة، وهي تحتاج إلى عددٍ من المعلمين لا تحتاج إلى مثله المدرسة الأولية، وعمل هؤلاء المعلمين فيها أشق وأدق، كما أن إعدادهم لهذا العمل كان أشق وأدق؛ فهم قد بذلوا في الاستعداد لهذا العمل جهودًا طويلة شاقة، وبذلت الدولة في إعدادهم له جهودًا ليست أقل منها مشقة ودقة، وهم قد أنفقوا في هذا الاستعداد مالًا كثيرًا، وأنفقت الدولة في هذا الإعداد مالًا كثيرًا أيضًا.
فواضح جدًّا أن ميزانية الدولة لا تستطيع أن تنهض وحدها بنفقات هذا التعليم العام، وأن الأُسَر التي ترسل أبناءها إليه لا بد من أن تحتمل شيئًا من هذه النفقات.
وإذَنْ فلن يكون هذا التعليم العام إلزاميًّا؛ لأنه لا يتجه، ولا يستطيع أن يتجه، ولا ينبغي أن يتجه، إلى أبناء الشعب جميعًا، وما دام هذا التعليم ليس إلزاميًّا فلن يقدم إلى التلاميذ مجانًا.
وإذَنْ فسيكون مقصورًا على الذين يستطيعون أن يؤدوا أجره من أبناء الشعب؛ أي على أبناء الطبقات الوسطى والطبقات الغنية، ولن تكون الديمقراطية منصفة ولا ملائمة بين ما تستطيع وبين ما يجب عليها، إن مشت مع هذا المنطق الدقيق إلى أبعد آماده، فلم تقدم هذا التعليم إلا للقادرين على أن يؤدوا أجره، ذلك أن هناك منطقًا آخر ليس أقل دقة ولا صدقًا من هذا المنطق الذي عرضناه، فمن حق الفقراء أن يتعلموا، ومن حقهم أن يطمعوا في أكثر مما يعطيهم التعليم الأولي، ومن حقهم أن يطمحوا إلى التعليم العام وإلى التعليم العالي.
ذلك حقهم من جهة، وفيه مصلحة الأمة من جهةٍ أخرى، وفيه تحقيق الديمقراطية نفسها من جهةٍ ثالثة، فحرمان الفقراء لأنهم فقراء أن يتعلموا، وأن يرقوا، وأن يصلحوا أحوالهم، وأن يطمحوا إلى الكمال؛ تقرير لنظام الطبقات، وإيمان بسلطان المال وعبادة لهذا السلطان، وفناء فيه، وليس هذا كله من الديمقراطية الصحيحة في شيء.
فلا بد إذَنْ من أن تُحلَّ هذه المشكلة حلًّا معقولًا، يلائم طاقة الدولة ويلائم حق الفقراء في الرقي، وهذا الحل هو الذي وجدته الديمقراطيات المعتدلة منذ زمنٍ بعيد، وهو أن تأخذ من القادرين أجر هذا التعليم، وأن تحط ثقله عن العاجزين عن أدائه.
ولكن هذا الحل كما نعرضه الآن يظهر يسيرًا وهو في حقيقة الأمر لا يخلو من عسرٍ وتعقيد؛ فالقادرون على أن يؤدوا أجر التعليم تختلف حظوظهم من هذه القدرة؛ فمنهم الأغنياء الذين لا يحسون هذا الأجر إذا أدوه، ومنهم الموسرون الذين يحسون هذا الأجر ولكنهم يستطيعونه، ومنهم العاملون الذين لا يستطيعونه إلا في شيءٍ من المشقة والجهد، يختلف قوة وضعفًا باختلاف أعمالهم وما تغل عليهم من الدخل، وما يحتملون من الواجبات والتكاليف، والعاجزون عن أداء هذا الأجر لا ينبغي أن يطمعوا جميعًا في إرسال أبنائهم إلى هذا التعليم بحجة أن لهم على الديمقراطية أن تعلم أبناءهم وتمهد لهم سبل الرقي.
وإذَنْ فلا بد من أن ينظَّم قبول أبناء العاجزين في مدارس التعليم العام؛ فلا يُقبل منهم إلا الذين يثبت استعدادهم الجيد للانتفاع بهذا التعليم، وإنما يكون ذلك بالمسابقات التي تعقد لهم في أثناء التعليم الأولي أو آخره، على أن تكون هذه المسابقات دقيقة نقية مبرَّأة من العبث والمحاباة.
والشر كل الشر أن تُترك المجانية فوضى، وأن يُقبل أبناء المعسرين بغير نظام، يُكتفى في قبولهم بشهادة هذا، وتزكية ذاك، وتوسط هذا العظيم ورجاء ذلك الكبير، فكل هذا أحرى أن يدفع الدولة إلى الظلم، وما يستتبعه الظلم من فساد الخلق، وإحراج الصدور، وإضاعة ثقة الشعب بعدل السلطان، وحمل الناس على ألا يؤمنوا بالقانون، ولا يرعوا له حرمة ولا ينظروا إليه نظرة الجد والاطمئنان.
ولا بد من أن تُتَّخذ المسابقات الدقيقة النقية وسيلة لإنصاف القادرين حين يجدون المشقة في أداء ما يُطلب إليهم من أجر، فلا تُمنح المجانية للغني ولا للموسر، ولا تُمنح لمن لا يجد جهدًا، ولا يجد إلا جهدًا يسيرًا في الإنفاق على تعليم أبنائه، فإذا بلغنا الذين يطيقون هذا الإنفاق في مشقةٍ وجهد أجرينا بينهم الإنصاف من طريق المسابقات، فأعفينا بعضهم من الأجر كله، وأعفينا بعضهم الآخر من بعض هذا الأجر، وأدرنا هذا الإعفاء نفسه مع قدرتهم على الإنفاق وجودًا وعدمًا كما يقول الفقهاء، فقد يعسر الرجل اليوم ويوسر غدًا، وقد يستطيع هذا العام ويعجز في العام الذي يليه.
والخلاصة لهذا كله أن التعليم العام يجب أن يكون مباحًا للناس جميعًا إذا استطاعوا أن يؤدوا أجره، فإن عجزوا عن ذلك مكنوا من تعليم أبنائهم بشرط أن يكونوا أهلًا للانتفاع به، وأنا أرفض أشد الرفض وأعنفه أن يُقصَر هذا التعليم على طبقة من الناس دون طبقة، أو أن يباح للناس جميعًا في القانون ثم تخلق المصاعب العملية أمام الفقراء والمعدمين لتضطرهم إلى الاكتفاء بالتعليم الأولي، وتفرض عليهم الجهل وقد كانوا يستطيعون أن يتعلموا، وتلزمهم الخمول وقد كانوا يستطيعون أن ينبهوا.
ويجب أن يستقر في نفوسنا أن الغنى واليسار ليسا مزية أساسية في طبيعة الأغنياء والموسرين تمنحهم من الحقوق ما يحظر على غيرهم من الناس، وأن الفقر والإعدام ليسا عيبًا أساسيًّا في طبيعة الفقراء والمعدمين يحرمهم من الحقوق ما يباح لغيرهم من الناس، وإنما الفقر والغنى عرضان من أعراض الدنيا لا ينبغي أن يكون لهما أثر في تحقيق العدل والمساواة بين الناس، وإذا احتاج الوطن إلى أن يذود أبناؤه عنه غارة العدو، فلن يختص الأغنياء بشرف هذا الدفاع، ولعل حظ الفقراء من هذا الشرف أن يكون أعظم من حظ الأغنياء، ولعل الأغنياء أن يشتروا بالمال سلامة أبنائهم وإعفاءهم من الجندية، فأيهما ينبغي أن يكون آثر إلى الدولة: من يبذل في سبيل الدفاع عن الوطن دراهم ودنانير، أم من يزهق في سبيل هذا الدفاع نفسه، ويريق دمه، ويعرِّض أهله وأبناءه للبؤس والضنك وسوء الحال؟
وقد أحست بعض الديمقراطيات الحديثة إحساسًا قويًّا حق الفقراء في هذا التعليم العام، فجعلت أجره يسيرًا جدًّا، ثم مضت في تيسيره قدمًا حتى أباحته للناس جميعًا، وقدمته إليهم بغير أجر.
وأنا أشير بذلك إلى فرنسا التي جعلت تعمم المجانية في التعليم العام حتى فتحت أبوابه لجميع الذين فتحت لهم أبواب التعليم الأولي، إلا أنهم لا يدفعون إليه كما يدفعون إلى التعليم الأولي بقوة القانون.
وهذا المسلك الذي سلكته الديمقراطية الفرنسية ملائمٌ للحق وملائمٌ لما ينبغي من البر بالفقراء، ولكنه لا يخلو من إسراف؛ فقد أخذت فرنسا نفسها تحسه وتشكو منه، فتكاليف الدولة أثقل من أن تسمح بهذا السخاء، ولا سيما في هذه الأيام التي جنت فيها الإنسانية المتحضرة، وأخذت تنفق في سبيل الحرب، طوعًا أو كرهًا، أموالًا لا نستطيع أن نتصورها إلا في كثيرٍ من الجهد والعناء.
وقد أخذت فرنسا تحس ضررًا آخر لهذه الإباحة المطلقة يأتي من اندفاع الناس إلى هذا التعليم بغير حساب، ومن إقبال كثير من الأسر على إرسال أبنائها إلى مدارسه، دون أن تتبين حسن استعدادهم لتلقي هذا التعليم، والانتفاع به، والنجاح فيه.