ازدحام المدارس بالتلاميذ يضعف العناية بهم
ولكن سلوك هذه الطريق رهين بشرطٍ أساسي قد فطنت وزارة المعارف لضرورته منذ حين، وألح فيه وجهر بالدعوة إليه أحد الممتازين من وزراء المعارف وهو الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا في تقريره القيم الذي نشره حين كان وزيرًا للمعارف للمرة الأولى، كما ألح فيه وجهر به صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا في كتابه القيم الذي نشره هذا العام «على هامش السياسة: بعض مسائلنا القومية»، وهو ألا تكتظ المدارس بالطلاب.
ومن الحق أن هذين المفكرين حين ألحا في تحقيق هذا الشرط، وطلبا ألا تزدحم المدارس، لم يفكرا في هذا النحو الذي نتجه إليه تفكيرًا خاصًّا دقيقًا، وإنما فكر أولهما في أن ازدحام المدارس بالطلاب يحول بين النظار وبين المراقبة العادية لهم، ويحول بين المعلمين وبين الفراغ لتلاميذهم، وبينهم وما يستحقون من العناية في أثناء الدرس، وفي تصحيح الكراسات؛ أي أنه فكر في أن ازدحام المدارس بالتلاميذ يقوم عقبة عسيرة دون التعليم المنتج الصحيح.
وأما الثاني فقد فكر في هذا كله، وفكر في ناحية اجتماعية أخرى لها خطرها العظيم؛ وهي أن توسُّع الحكومة في إنشاء المدارس الابتدائية يفرض على المدارس الثانوية القائمة أن تقبل عددًا من التلاميذ لا تتسع له، كما أن توسع الحكومة في إنشاء المدارس الثانوية يفرض على الجامعة ومعاهد التعليم العالي أن تقبل عددًا من الطلاب لا تتسع له، فإن لم تقبل المدارس الثانوية كل من يتقدم لها من التلاميذ، وإن لم تقبل المعاهد العالية كل من يتقدم لها من الطلاب، قطعت طريق التعليم على الصبية والشباب، وفرضت عليهم البطالة فرضًا، وعطلت ملكات واستعدادات كانت خليقة أن تؤتي أطيب الثمر وأقومه، واندس السخط إلى نفوس الأُسر التي يُرَد أبناؤها عن المدارس والمعاهد، وظهرت الشكوى، وكثر التبرم، واشتد الضغط على وزارة المعارف من جهة، وعلى الجامعة من جهةٍ أخرى، وربما اشتد الضغط على رئيس الوزراء نفسه، وعلى أعضاء البرلمان شيوخًا ونوابًا، وربما استحال الأمر إلى مسألة سياسية عظيمة الخطر، واضطر الحكومة نفسها إلى أن تلح على المدارس والجامعة في قبول التلاميذ والطلاب لتخلص من الإلحاح والشكوى، ولترضي الجمهور الساخط، ولتكفل لنفسها من رضا الجمهور وإذاعة الصحف ما يقويها إن كانت ضعيفة، ويزيدها قوة وأيدًا إن كانت متمكنة من مراكزها، مطمئنة إلى سيطرتها على الحكم.
وليس من شكٍّ في أن هذين المفكرين قد وُفِّقا إلى الصواب كله فيما فكرا فيه؛ فإن ازدحام المدارس بالتلاميذ لا يلائم ما نلح فيه أشد الإلحاح على المعلمين والنظار من وجوب العناية بالتلاميذ فردًا فردًا، وتتبعهم واحدًا واحدًا، فيما يتلقون من درس، وما يعدون من واجبات في البيت وفي المدرسة.
وإذا جاز أن يُلقى درس في التاريخ السياسي أو الأدبي على عدد عظيم من المستمعين على أن يحصِّل كل واحد ما يستطيع تحصيله مما سمع؛ فإن ذلك مستحيل استحالة تامة في اللغات، وفي العلوم التجريبية، وما يشبهها من مواد الدرس؛ لأن هذه المواد لا تُعلَّم للجماعات، وإنما تُعلَّم للأفراد؛ أي أن المعلم مضطر إلى أن يتجه إلى التلميذ من حيث هو فرد ليتحقق أنه انتفع بدرس اللغة، وفقه ما سمع وما رأى من درس الطبيعة والكيمياء، بل هذا مستحيل بالقياس إلى درس التاريخ نفسه في المدارس الثانوية، فالتعليم كله في هذه المدارس يجب أن يتجه إلى الفرد لا إلى الجماعة، وإلى التلميذ لا إلى الفصل؛ لأن الصبي في هذه المدارس لم يبلغ بعدُ من القوة والنضج أن يعتمد على نفسه اعتمادًا تامًّا، وأن يستغني بجده الخاص عن تعهد المعلم له بالنصيحة والتقويم والإرشاد.
فكثرة التلاميذ في الفصل خطر عظيم على صلاح التعليم، وحائل عظيم دون انتفاع التلميذ به وفراغ المعلم له، وكذلك إكراه المدارس والمعاهد على أن تقبل التلاميذ والطلاب إرضاءً للحكومة، أو اتقاءً لسخط الجمهور، أو تجنبًا لتضييع مستقبل الصبية والشباب وفرض البطالة عليهم، خطر أي خطر؛ لأنه يحول المدارس والمعاهد عن وجهتها التعليمية الخالصة إلى وجهة أخرى ينبغي أن تتجنبها كل التجنب؛ فهو يجعلها أدوات سياسية ووسائل للإذاعة ونشر الدعوة وتملق الجمهور، وهو خليق أن يفتح للوزراء وكبار الموظفين في وزارة المعارف أبوابًا قد تنفع أشخاصهم ولكنها تضر المصلحة العامة من غير شك، فقد يستطيع هذا الوزير وذاك الموظف الكبير أن يفخرا بأنهما قبلا في المدارس والمعاهد أضخم عدد ممكن من الصبية والشباب، وقد يستتبع هذا فصولًا طوالًا في الصحف السيارة ملؤها الحمد والثناء والتقريظ، ولكن هذا كله شيء ومصلحة التعليم وانتفاع المتعلمين به شيء آخر.
وقد رأيت مما قدمنا أننا نبغض تضييق التعليم العام أشد البغض، وننكره أشد الإنكار، ونلح في أن تُفتح أبواب المدارس العامة على مصاريعها للمصريين جميعًا، ولكن يجب أن يُفهم أننا حين ندعو إلى إباحة التعليم العام للمصريين جميعًا نريد أن يكون هذا التعليم صالحًا مصلحًا، وخصبًا منتجًا.
نحن لا نريد أن يُقبَل الصبية والشبان في المدارس والمعاهد بغير حساب كلما تقدموا إليها، وإنما نريد أن تنشئ الدولة من المدارس والمعاهد ما يمكنها من قبول الصبية والشبان كلما تقدموا إليها.
ليس يرضينا أن يكون في هذه المدرسة ألف من التلاميذ على حين أنها لا تستطيع أن تعلم تعليمًا صالحًا إلا نصف الألف، وليس يرضينا أن تقبل هذه المدرسة نصف الألف وأن يُردَّ النصف الآخر إلى البطالة والضياع، وإنما نريد ألا تقبل المدرسة من التلاميذ فوق طاقتها من جهة، وألا يُردَّ طالب العلم عن العلم من جهةٍ أخرى، نريد ألا تكلف المدارس فوق ما تطيق، وأن تنشأ المدارس كلما كثر الإقبال على التعليم العام، واشتدت رغبة الناس فيه.
وقد يقال إن الطاقة المالية للدولة وما تنهض به من التبعات الأخرى التي لا تتصل بالتعليم، وحاجة الدفاع الوطني التي تقوى وتشتد ويكثر استهلاكها للنفقات من يومٍ إلى يوم، كل ذلك قد لا يمكن الدولة من إرضاء حاجة الناس إلى العلم، وإنشاء ما يحتاجون إليه من المدارس والمعاهد.
قد يقال هذا، بل هو يقال ويكرر كل وقت، ولكنه لا يقنعنا، ولا يردنا عما نلح فيه من وجوب إرضاء حاجة الشعب إلى التعليم العام.
وأول ما يجب أن نلاحظه، ونحب أن يفهمه المشرفون على الأمر في مصر، أن التعليم ليس ترفًا، وإنما هو حاجة من حاجات الحياة، وضرورة من ضروراتها، فإذا طالبنا بإذاعته ونشره، فلسنا نطالب بالترفيه على الشعب، ولا تمكينه من تحصيل لذة يمكن أن يصبر عنها أو يزهد فيها، وإنما نطالب بأن يتاح للشعب أيسر حقوقه ويُؤدَّى إليه أقل ما هو أهل له من العناية.
وليست حاجة الشعب إلى التعليم الصالح بأقل من حاجته إلى الدفاع الوطني المتين، فالشعب ليس معرضًا للخطر الذي يأتيه من خارج حين يغير عليه الأجنبي الطامع فحسب، ولكنه معرض للخطر الذي يأتيه من داخل حين يفتك الجهل بأخلاقه ومرافقه، ويجعله عبدًا للأجنبي المتفوق عليه في العلم، وليس يغني عن مصر ولا يكفل لها استقلالها الصحيح أن يكون لها جيش قوي عزيز يحمي حوزتها ويذود عن حدودها إذا كان وراء هذا الجيش ومن دون هذه الحدود شعب جاهل غافل، لا يستطيع أن يستغل أرضه، ولا أن يستثمر مصادر ثروته، ولا أن يستقل بتدبير مرافقه، ولا أن يفرض احترامه على الأجنبي بمشاركته في تنمية الحضارة الإنسانية، بما ينتج في العلم والفلسفة وفي الأدب والفن من الآثار.
لا بد إذَنْ من نشر التعليم العام من جهة إلى أقصى حدود النشر، ولا بد من حماية المدارس والمعاهد من هذا الازدحام الشنيع الذي يفسد التعليم إفسادًا، ولا بد من أن تدبر الدولة ما يحتاج إليه ذلك من المال، كما تدبر ما يحتاج إليه الدفاع الوطني من المال، وتدبير هذا المال ليس مستحيلًا، بل ليس عسيرًا في حياتنا الواقعة التي نحياها الآن؛ فأمام الدولة أبواب من الإسراف يجب أن تُغلَق وأن تُردَّ غلتها على التعليم والدفاع الوطني، وأمام الدولة أبواب من الاقتصاد يجب أن تُفتَح وأن تُردَّ غلتها على التعليم والدفاع الوطني. وسكان مصر لم يؤدوا بعدُ إلى الدولة ما يستطيعون أداءه من الضرائب، وليس من حقهم أن يمانعوا في أن تفرض عليهم الضرائب الجديدة حين تدعو إلى ذلك حاجة التعليم وحاجة الدفاع، وليس من الضروري أن تغل أرض فلان أو تجارة فلان عليهما عشرة آلاف أو عشرين ألفًا من الجنيهات في العام ويبقى الشعب جاهلًا غافلًا معرضًا لغارة الأجنبي، بل من الممكن، بل من الواجب، أن ينقص هذا الدخل بمقدار ما تحتاج إليه المصلحة الوطنية العامة، وأيسر المقارنة بين ما يدفعه سكان مصر من الضرائب وما يدفعه سكان البلاد الأوروبية الراقية، يقنعنا بأن النظام الاجتماعي في مصر شديد الحاجة إلى الإصلاح والتقويم، وبأن سكان مصر لم يعرفوا بعدُ ما تقتضيه الحضارة، وما يفرضه الاستقلال من التبعات.
ولا بد من أن يشعر القادرون على دفع الضرائب شعورًا دقيقًا عميقًا، يمتزج بنفوسهم، ويجري في عروقهم مع دمائهم، بأن ما يؤدون من الضرائب للدولة لا يُؤخذ منهم ليُنفَق على غيرهم، وإنما يُؤخَذ منهم ليُنفَق عليهم؛ فهم يستفيدون كلما ارتقت مرافق الحياة في مصر، وهم يستفيدون كلما انتشر التعليم في طبقات الشعب، وهم يستفيدون كلما أمن الوطن غارة الأجنبي واقتحام الحدود. والخير كل الخير أن يفهم الأغنياء ودافعو الضرائب هذه الحقائق الأولية في سهولةٍ ويسر منذ الآن، قبل أن يأتي يوم ثقيل بغيض تُكرِههم فيه الضرورة على فهمها إكراهًا.
فقد اتصلنا بأوروبا أشد الاتصال، ونحن سائرون على آثارها وخاضعون لما خضعت له، ومضطرون لما اضطرت إليه، وقد ذاعت في أقطار الأرض كلها، وفي الأقطار المتحضرة منها بنوعٍ خاص، حقوق الإنسان، ومنها الحرية والعدل والمساواة، وقد ذاقت الشعوب طعم هذه الحقوق فاستلذته، وطمعت في الاستزادة من هذه الحقوق، ومضى كثير منها في ذلك إلى آمادٍ بعيدة، فالخير أن ندبر التطور بأنفسنا، وأن نسعى إليه طائعين، قبل أن نُدفع إليه كارهين، والخير إذَنْ أن ندبر للشعب ما يحتاج إليه من المال ليتعلم، وما يحتاج إليه من المال ليصح ويستمتع بالحياة التي تليق بالإنسان، وما يحتاج إليه من المال ليدافع عن وجوده واستقلاله.
الخير أن ندبر كل هذا المال، وإن اضطرنا ذلك إلى أن نشق على أنفسنا إن كنا من أوساط الناس، أو أن ننزل عن فضل من ثروتنا إن كنا من أصحاب الثراء.
ونعود من هذا الاستطراد الذي لم يكن منه بد إلى الموضوع الذي بدأنا الحديث فيه، وهو أن التعليم العام يجب أن يُنشَر إلى أقصى حدود النشر، وأن مدارسه يجب أن تُحمى من الازدحام بالتلاميذ لما رآه الأستاذ نجيب الهلالي باشا من إفساد هذا الازدحام للتعليم، ولما رآه الدكتور حافظ عفيفي باشا من الأثر السيئ لهذا الازدحام في حياتنا الاجتماعية من جهة، وفي طبيعة التعليم من جهة أخرى، ثم لتحقيق الفكرة التي صورناها في الفصل السابق: فكرة المراقبة الدقيقة المتصلة للتلاميذ فردًا فردًا، بحيث تستطيع المدرسة أن تبلو فطرة التلميذ وملكاته واستعداده، وأن توجهه بالنصح والإرشاد له ولأسرته إلى ما هو ميسر له من ألوان التعليم وضروب النشاط.
هذه المراقبة الدقيقة المتصلة لا تلائم ازدحام المدرسة بالفصول، ولا ازدحام الفصل بالتلاميذ، فسيطلب إلى المعلم أن يراقب تلاميذه واحدًا واحدًا، وأن يتخذ لنفسه سجلًا يثبت الملاحظات التي تنتجها هذه المراقبة، وواضح أن ذلك لا يستقيم له إذا ازدحم الفصل عليه بالتلاميذ.
وسيضطر المعلم بحكم هذه المراقبة إلى أن يتصل ببعض تلاميذه اتصالًا دقيقًا حين يمتازون بالقوة أو بالضعف، فيسمع منهم، ويتحدث إليهم، ويسجل نتائج هذا كله، فسيكون المعلم مؤدِّبًا بالمعنى القديم، يجمع بين التربية والتعليم، وإذا كان هذا لا يستقيم له إذا ازدحم عليه الفصل بالتلاميذ، فأمر المدرسة لن يستقيم للناظر إذا ازدحمت عليه بالفصول كما لاحظ الأستاذ نجيب الهلالي باشا، ذلك أنه سيضطر إلى أن يلاحظ في دقة ما يرفعه إليه المعلمون من نتائج مراقبتهم، وسيضطر إلى أن يمتحن هذه النتائج فيتصل ببعض التلاميذ الذين يمتازون بالقوة أو الضعف، وسيضطر بعد ذلك إلى أن يكون صلة بين المعلمين وبين الأسر، فإذا لاحظنا أن ناظر المدرسة بمقتضى هذا النظام سيكون مربيًا ومعلمًا بإشرافه على التربية والتعليم في مدرسته، وسيكون بعد هذا كله مديرًا بإشرافه على الناحية المادية من حياة المدرسة، وبتحقيق الصلة بينها وبين وزارة المعارف، إذا لاحظنا هذا كله، اقتنعنا بأن ازدحام المدرسة بالتلاميذ شر على التربية وشر على التعليم وشر على الإدارة، والخير كل الخير ألا يفرض على المعلمين وناظر المدرسة فوق ما يطيقون …
وأنا أعلم أن النظار والمعلمين مسئولون إلى حدٍّ ما عما نضيق به من فساد التعليم الثانوي، وسأعرض لهذا في موضعٍ آخر من هذا الحديث، ولكني أعتقد أننا نسرف إسرافًا شديدًا في لوم النظار والمعلمين، وفي تحميلهم ما نحملهم من التبعات؛ فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والطاقة الإنسانية محدودة، فما ينبغي أن نفرض على المعلم أن يكون معلمًا ومربيًا للمئات من التلاميذ، ثم نطلب إليه أن يؤدي ذلك على أكمل وجه وأحسنه، وقديمًا قال الحكماء: إذا أردت أن تُطاع فاطلب ما يُستطاع.