حُقوق المُعلم والثقة به
وإذا طلبت إلى المعلم أن يكون مؤدِّبًا بالمعنى القديم، فلا يقصر جهده على صب العلم في رأس التلميذ، وإنما يربيه ويثقف عقله ويقوم نفسه، ويهيئه تهيئة صالحة للحياة العملية من جهة، وللرقي العقلي من جهةٍ أخرى، فأول ما يجب عليك لهذا المؤدِّب أن تثق به، وتطمئن إليه، وتشعره بتلك الثقة وهذا الاطمئنان.
فإن أنت لم تفعل ذلك وأبيت إلا أن تندس بين المعلم وتلميذه، وأن تشعر المعلم في كل لحظة بأنك من ورائه تقيد أنفاسه وتحصي عليه الكبيرة والصغيرة، لأفسدت عليه أمره في جميع الوجوه، أفسدت عليه رأيه فيك قبل كل شيء، فلم ينظر إليك على أنك شريكه ومعاونه على مهمة التربية والتعليم، وإنما ينظر إليك على أنك حاكم مسيطر تدفع إليه أجرًا وتتقاضاه عملًا، فصانعك وخادعك، وقامت التهمة بينك وبينه مقام الثقة، وقام الخوف والشك بينك وبينه مقام الأمن واليقين، وأفسدت عليه رأيه في التلميذ، فلم ينظر إليه على أنه أمانة قد اؤتمن عليها، ووديعة كُلِّف حمايتها وحياطتها، وفرد من أفراد الشعب قد كُلِّف تربيته وتنميته وتعهده بالرعاية والعناية حتى ينمو ويزكو ويصير رجلًا، وإنما ينظر إليه على أنه مادة للعمل الذي يعيش منه، وموضوع للنشاط الذي يكسب منه القوت، فيعامله معاملة المادة الجامدة الهامدة، لا معاملة الكائن الحي، ولا معاملة الإنسان الناطق، ويصوغ لك هذه المادة كما تحب أنت أن تكون، لا كما يحب هو أن تكون ولا كما ينبغي أن تكون، ويصبح المعلم آلة من الآلات، وأداة من الأدوات في هذا المصنع العقيم السخيف الذي نسميه المدرسة، والذي تصنع فيه الدولة أبناء الشعب على مثالٍ واحد، وتصوغهم على صورةٍ واحدة، وتخرجهم بعد ذلك أفواجًا كما يخرج المصنع ما يخرجه من المصنوعات.
نعم، يصبح المعلم أداة، وتصبح المدرسة مصنعًا، ويصبح التلاميذ مادة، ويفقد التعليم والتربية أخص ما يحتاجان إليه من المقومات وهو الحياة والحب والنشاط والطموح.
ثم أفسدت عليه رأيه في نفسه آخر الأمر، فلم ينظر إلى نفسه على أنه وكيل الشعب وأمينه على تكوين الشباب وتنشيء الأجيال المقبلة على خير ما يكون الشباب وتنشأ الأجيال، وإنما ينظر إلى نفسه على أنه موظف أجير، يقبض في آخر الشهر مقدارًا من المال، ويؤدي حسابًا عسيرًا عن العمل الذي قبض من أجله هذا المال، يؤديه في كل يوم إلى الناظر، ويؤديه في كل أسبوع إلى المفتش، ويؤديه آخر العام إلى الوزارة حين تظهر نتيجة الامتحان.
وبعض هذا يكفي ليفقد المعلم ثقته بنفسه، وحبه لمهنته، وإيمانه بكرامة هذه المهنة، ولينظر المعلم إلى التعليم والتربية على أنهما مصدر يغل عليه القوت لا أكثر ولا أقل!
وإذَنْ فحسبه أن يكسب قوته من هذا المصدر على أي نحوٍ من الأنحاء، قد فقد حبه للتلميذ فهو لا يحفل به، وفقد نصحه للرئيس فهو لا يطمئن إليه، وفقد ثقته بنفسه فهو لا يعتد بكرامته، وإنما يكتفي من الحياة بالحياة، لا يطمح إلى المثل الأعلى لنفسه ولا لتلميذه ولا لأمته، ومتى رأيت آلة من الآلات، أو أداة من الأدوات تطمح إلى المثل الأعلى أو تفكر فيه؟!
أكبر الظن أن وزارة المعارف في مصر لا تفكر في شيءٍ من هذا ولا تقف عنده، وأكبر الظن أنها لا تريد بالمعلمين شرًّا، ولا تتصورهم عن عمدٍ على هذا النحو الذي بسطناه آنفًا، ولكنها مع ذلك تنتهي بهم إلى هذا الوضع السيئ، وتضطرهم إلى هذه الحال المنكرة، وتلومهم بعد ذلك أشنع اللوم على فساد التعليم وضعف المتعلمين.
لا تستطيع وزارة المعارف أن تقول وهي جادة إنها تثق بالمعلمين ثقة صحيحة قوامها الأمن والاطمئنان، فالتفتيش على النحو الذي هو عليه دليل ناطق على أن وزارة المعارف لا تطمئن إلى المعلم، والامتحان على النحو الذي هو عليه دليل ناطق على أن وزارة المعارف لا تثق بالمعلم، ولست أعرض هنا لما يتقاضى المعلم من مرتب، وما يقدر له من درجة، فهذه قصة أخرى لا أريد أن أقف عندها في هذا الحديث أو في هذا الفصل على أقل تقدير، إنما أريد أن أقف عند الصلة التي يجب أن تكون بين المعلم والمتعلم، والصلة التي يجب أن تكون بين المعلم والدولة التي ائتمنته على التعليم، فقوام هذين النوعين من الصلة يجب أن يكون الحب والثقة والتعاون والاحترام.
يجب أن يكون الحب الذي يملأ نفس المعلم لتلميذه، ونفس التلميذ لمعلمه، والثقة التي تملأ نفس المعلم بالدولة ونفس الدولة بالمعلم، والاحترام الذي يجب أن يكون شائعًا بين هؤلاء جميعًا، والشيء الذي لا شك فيه، والذي يعرفه كل واحد منا ويتحدث به إلى نفسه إذا خلا إليها وإلى أصدقائه إذا أمن الرقيب، هو أنه لو كُشف عن نفوس المعلمين والمتعلمين والمشرفين على التعليم لرأينا فيها شرًّا عظيمًا، شرًّا مخيفًا يملأ القلوب فزعًا وإشفاقًا، لو كشف عن نفوس المعلمين والمتعلمين والمشرفين على التعليم لرأينا فيها شكًّا وريبًا وبغضًا وازدراء وخوفًا وإشفاقًا، ولتساءلنا بعد ذلك على أي شر ونكر نريد أن نقيم بناء الجيل الجديد؟
أواثق أنت بأن التلميذ يحب المعلم ويحترمه، ويتحدث عنه إلى أترابه حديث الحب والإعجاب والاحترام؟ أواثق أنت بأن المعلم يحب المفتش ويطمئن إليه ويتحدث عنه إلى زملائه حديث الثقة والأمن؟ أواثق أنت بأن المفتش يحب مراقبة التعليم التي يتبعها ويتحدث عن المراقب وأعوانه وعن كبار الموظفين في الديوان حديث الآمن المطمئن.
أما أنا فواثقٌ بما يناقض هذا كله أشد المناقضة؛ لأني رأيته وسمعته وظهرت عليه فيما كان من صلةٍ يومية بيني وبين المعلمين والمتعلمين والمشرفين على التعليم في أثناء عشرين عامًا أو ما يقرب من عشرين عامًا، وسيقرأ رجال التعليم هذا الكلام فيضيقون به ويلومونني فيه، لا لأنهم ينكرونه إذا خلوا إلى أنفسهم، بل لأنهم يشفقون منه أشد الإشفاق، ومتى استطاع الناس أن يواجهوا الحق دون أن يشفقوا منه أشد الإشفاق؟!
ومن أجل هذا كله كانت في مصر ظاهرة خطرة أشد الخطر، مناقضة لطبيعة الأشياء أشد المناقضة، وهي أن وزارة التربية والتعليم عندنا ليست هي الملجأ للمثل الأعلى في الأخلاق، وما يجب أن يكون بين الناس من حسن الصلة وارتفاع العلاقات عن الصغائر والدنيات.
ولست أقول شيئًا جديدًا، ولا أنتظر أن يخالفني أحد فيما أقول إذا قررت ما يقرره الناس جميعًا في مصر من أننا لا نعرف وزارة من وزارات الدولة المصرية يشتد فيها التنافس البغيض بين الموظفين، ويشتد فيها ما يتبع هذا التنافس من التباغض والتحاسد، ومن الكيد والمكر، ومن الارتياب بكل شيءٍ وبكل إنسان، وسوء الظن بكل شيءٍ وبكل إنسان، كوزارة المعارف.
فيها تجد ما شئت وما لم تشأ من مكر الصديق بالصديق، وكيد الزميل للزميل، وتوقع الشر من كل مصدر، والتماس الخير من كل مصدر، وفيها تجد التنافس بين الطبقات، والتنافس بين الأفراد، والتنافس بين الطوائف؛ فالمعلمون ينكرون المفتشين، والمفتشون ينكرون المعلمين كما ينكرون كبار الموظفين، وكبار الموظفين ينكرون أولئك وهؤلاء، وكل طبقة من هذه الطبقات ينكر بعضها بعضًا، ويشفق بعضها من بعض، ويتربص بعضها ببعض الدوائر، ويتمنى بعضها لبعض المكروه، والذين خرجوا من دار العلوم ينكرون الذين خرجوا من مدرسة المعلمين العليا، وأولئك وهؤلاء ينكرون هذه الطائفة الضئيلة التي خرجت من الجامعة ومعهد التربية وجعلت تتسلل إلى وزارة المعارف شيئًا فشيئًا.
وأغرب شيء في وزارة التربية والتعليم أنها بعيدة كل البعد عن أن تعرف لنفسها شخصية ممتازة، وهي من أجل ذلك بعيدة كل البعد عن أن يعرف الناس لها هذه الشخصية الممتازة، هي أشد الوزارات مرونة فيما يجب ألا تكون فيه مرونة ما، أخص أعمالها فنية خالصة يجب أن يصدر فيها الموظفون المسئولون عن رأي مستقل تكون بعد البحث والدرس والاقتناع، ولكنك لا تكاد تعرف لوزارة المعارف رأيًا مستقرًّا في مسألة من المسائل الفنية الخطيرة أو الهينة، وإنما هي تعرف ما يعرف الوزير، وتنكر ما ينكر الوزير، ولما كان الوزراء عندنا رجالًا سياسيين كشأنهم في كل البلاد الديمقراطية، فهم يتغيرون بتغير الظروف السياسية، فقد أصبحت وزارة المعارف مرآة صافية، أو قل: مرآة كدرة للحياة السياسية في مصر، ولها في كل يوم رأي إذا تغير الوزير، في كل يوم، أو إذا اقتضت ظروف السياسة أن يغير الوزير رأيه في مسألة من المسائل، وقد تعودنا أن نلوم وزراء المعارف في هذا التقلب المنكر الذي تضطرب فيه وزارة التربية والتعليم، وصوَّر الدكتور حافظ عفيفي باشا هذا اللوم تصويرًا مؤلمًا في كتابه «على هامش السياسة»، فنحن نلاحظ أن الوزراء يتعاقبون، فلا يكاد أحدهم يستقر في مكتبه حتى يلغي ما أقره سلفه، ويستأنف نظامًا جديدًا، ثم يمضي لشأنه ويخلفه وزير آخر، فيلغي هذا النظام ويستأنف نظامًا جديدًا.
وقد يكون هذا حقًّا من بعض الوجوه وبالقياس إلى بعض الوزراء، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الفنيين في وزارة المعارف — إن كان فيها فنيون — هم المسئولون قبل الوزراء عن هذا الاضطراب، فلو أنهم كونوا لأنفسهم آراء فنية، واقتنعوا بها، وثبتوا عليها، ونصحوا للوزراء وبينوا لهم أن شئون التعليم لا تحتمل الاضطراب ولا التغيير المستمر؛ لما أقدم الوزراء على كثيرٍ مما يقدمون عليه من التغيير والتبديل، وهب الوزراء أصروا على ما يريدون من تغييرٍ وتبديل، ومن حقهم أن يفعلوا، وهم قادرون على تنفيذ ما يريدون آخر الأمر، وطاعة الموظفين لهم واجبة إذا اطمأنت إليها ضمائرهم، فأول ما يجب على هؤلاء الموظفين أن يستقيلوا إذا كان الاختلاف بينهم وبين الوزير من الشدة والمساس بالمسائل الجوهرية بحيث يضطرهم إلى الاستقالة، فإن لم يكن من الشدة بهذه المنزلة فأيسر ما يجب عليهم أن يسجلوا آراءهم ويشيروا بها على الوزير، فإن لم يقبلها أنفذوا له ما يريد وقد أبرءُوا ذمتهم، وأرضوا ضمائرهم، ونصحوا للأمة في أهم مرافقها ونصحوا للوزير نفسه.
ولكن الأمور تجري في وزارة المعارف على ما يخالف هذا أشد الخلاف، فلسنا نعرف أن وزيرًا من وزراء المعارف وجد مقاومة قليلة أو كثيرة من موظفيه، لا أكاد أستثني من ذلك إلا ثلاثة موظفين: أحدهم الأستاذ نجيب الهلالي الذي خالف وزيره في بعض المسائل سنة ١٩٢٩ وثبت على خلافه وأمضى الوزير رأيه، ولكن رئيس الوزراء لم يمضِ رأي الوزير، والثاني مدير الجامعة الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا، والثالث من يملي هذا الحديث، وقصتنا مع صاحب المعالي حلمي عيسى باشا لا تحتاج إلى أن تعاد …
ولعلك تلاحظ أن الوزراء يتعاقبون على الوزارات المختلفة، فلا يغيرون فيها ولا يبدلون إلا ما تدعو إليه طبيعة الرقي وما تفرضه شخصية الوزير إن كان ممتازًا، من التجديد المعتدل الذي لا يحدث فسادًا ولا اضطرابًا، فما بال وزارة الداخلية مثلًا لم تُقلب رأسًا على عقب على كثرة من تعاقب عليها من الوزراء ذوي الشخصيات القوية المتناقضة أشد التناقض، مع أنهم في العادة يكونون رؤساء للوزارات، إليهم ينتهي سلطان الحكومة كله.
وتستطيع أن تلقي مثل هذا السؤال بالقياس إلى وزارة المال، ووزارة العدل، وإلى ما شئت من الوزارات، والجواب واحد بالقياس إليها جميعًا، وهو أن الموظفين المسئولين في هذه الوزارات، مهما يكن أمرهم ومهما تكن كفاياتهم ومهما تختلف الآراء فيهم، يقدرون أعمالهم وتبعاتهم، وينصحون للوزراء فيحولون بينهم وبين ما تضطر إليه وزارة المعارف من الإسراف المنكر في التغيير والتبديل.
وإذن فكل إصلاح لشئون التعليم على اختلاف فروعه وألوانه رهين بإصلاح لا بد من تحقيقه قبل كل شيء، وهو إصلاح الديوان في وزارة التربية والتعليم، وليست هذه أول مرة أدعو فيها إلى إصلاح الديوان في وزارة المعارف على أنه الشرط الأساسي لكل إصلاح يمس أي نوعٍ من أنواع التعليم، فقد طالبت بذلك وجاهدت فيه منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، كتبت فيه المقالات، وألقيت فيه المحاضرات، وتحدثت فيه إلى الوزراء، ولم أكن في ذلك كله وحيدًا، بل شاركني فيه غيري من الكُتَّاب والمفكرين الذين آلت إلى بعضهم أمور الحكم في ظروفٍ مختلفة.
ولست أحب أن يقال إني أتجنى على وزارة المعارف أو أظلمها، فليقرأ الناس ما شهد به وزير من وزراء المعارف، ومن وزرائها النابهين حقًّا، ولعله أشد من تولى أمورها علمًا بها وابتلاء لما خفي من أمرها وما ظهر، وهو الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا، فهو يقول في أول تقريره الذي نشره عن التعليم حين كان وزيرًا للمعارف سنة ١٩٣٥ ما ننقله بنصه.
وأساس العلة في رأينا هو الإدارة التعليمية، هو في طريقة الإشراف على المدارس، هو بعبارةٍ صريحة في وزارة المعارف، وقد حاولت أمم قبلنا أن تتبين أسباب فساد التعليم فوجدت أن مرجع الفساد هو الهيئة المركزية المشرفة على التعليم؛ لأنها هي المسئولة عن الخطط الدراسية، وعن المناهج وعن النظام المدرسي، وقد اهتدت تلك الأمم إلى وجوب البدء بالبحث في النظام المركزي والتفتيش المدرسي، وحالة مصر في هذا الشأن شبيهة بما كانت عليه تلك الأمم قبل إصلاح التعليم فيها، فإن وزارة المعارف قد ركزت في يدها كل ما يختص بالتعليم، تركيزًا ألغى شخصية المدارس إلغاء، وأعجز القائمين على أمر التعليم من نظار ومدرسين عن إحداث أي أثر في تكييف التعليم أو توجيه التربية، فاستحالت المدارس صورة متكررة متشابهة، وانعدم بذلك الطابع الشخصي الذي ينبغي أن تُطبع به كل مدرسة في حدود بيئتها الخاصة وأساتذتها وناظرها وتلاميذها، وكما غل هذا التركيز يد النظار والمدرسين، كذلك غل يد الوزارة نفسها عن العناية بالمسائل الفنية عناية كافية مثمرة.
وإذا كان زمن الوزارة مشغولًا بأصغر الشئون المدرسية: من عقوبات التلاميذ ومواظبتهم وإعادة قيدهم واعتماد جداول الدروس لم يبق منه إلا القليل للتفرغ للشئون الفنية ودراسة السياسة العليا للتعليم.
وكان الحق على الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا أن يبدأ بإصلاح الديوان قبل أن يأخذ في إصلاح التعليم، بعد أن سجل في تقريرٍ رسمي وهو وزير للمعارف، أن ديوان الوزارة نفسه هو أساس العلة في فساد التعليم، ولكن ظروف السياسة أعجلته عن ذلك فلم يصنع أو لم يكد يصنع فيه شيئًا.
ونتج عن ذلك أن الإصلاح الذي اقترحه للتعليم الثانوي على أنه قيم عظيم الخطر، وعلى أن الوزراء الذين جاءوا بعده لم يمسوه بتغيير ولا تبديل وانتظروا منصفين أن تبلغ تجربته إلى أقصاها، لم يؤتِ ما كان ينتظر منه من الثمرات؛ لأن الديوان الذي أشرف على تنفيذه ظل كما هو، لم يتغير ولم ينله الإصلاح، وتستطيع أن تكل إلى هذا الديوان أرقى خطة من خطط التعليم، وأروع منهج من مناهجه، وأبرع برنامج من برامجه، فسيظل التعليم كما هو، وستظل نتائجه كما هي، وستستمر الشكوى لسببٍ يسير جدًّا، وهو أنك لا تجني من الشوك العنب، وأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال.
وقد جعلت وزارة المعارف منذ أعوام تتحدث عن المركزية واللامركزية وتشعر بأنها أسرفت في التضييق على النظار والمعلمين وتريد أن توسع عليهم بعض الشيء، وتمنحهم بعض السلطان. وقد رسم الأستاذ نجيب الهلالي نفسه صورة حسنة رائعة لهذه الحرية التي يجب أن ترد إلى النظار والمعلمين، ولعل بعض هذه الصورة قد أنفذ بالفعل، ولكنه لم ينتج شيئًا، ولن ينتج شيئًا؛ لأن ديوان وزارة المعارف كما هو، لم يأخذ ولن يأخذ بالجد أمر اللامركزية هذه، بل حرص وسيحرص دائمًا على أن يضع إصبعه في كل شيء، ويضيق على النظار والمعلمين، وإن أظهر التوسعة والإسماح؛ ولأن نظام المركزية قد طال عهده، واشتد ضغطه على هذا الجيل من النظار والمعلمين، ففقدوا أو كادوا يفقدون ذوق الحرية والابتكار، والشخصية العاملة التي تقدم عن بصيرة، وتمضي في حزم، وتثبت على ما ترى، ولا تفكر فيما عسى أن يقول المفتش، وما عسى أن يقول المراقب، وما عسى أن يقول الوكيل، وما عسى أن يصنع الوزير، بعد أن يصور له هؤلاء الأمر كما يرونه هم لا كما هو في الواقع، ولا كما يراه المعلم أو الناظر الذي أمضاه.
فهذه علة مستعصية لا تعالج بالأناة والهوادة والرفق، وإنما بعملية جراحية قد لا يكون الإقدام عليها يسيرًا، ولا ملائمًا للظروف السياسية والاجتماعية، وأكبر الظن أن الزمن وحده هو الذي سيعالجها بما يكون من كر الغداة ومر العشي وبلوغ السن القانونية، وإجراء دم جديد في عروق الديوان لا عهد له بدنلوب ولا بتلاميذ دنلوب.